الملف اليمني..

تقرير: ماهي أسباب إستمرار المعاناة في جنوب اليمن؟

حميد الأحمر مع الرئيس التركي

كيوبوست

لم يستغرق تحرير العاصمة المؤقتة عدن، وغيرها من مناطق الجنوب، من قبضة الحوثيين سوى فترة وجيزة. وعلى الرغم من ذلك؛ فإنها وبقية المناطق المحررة ظلَّت تعاني سوء الخدمات العامة، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وتزايد الغضب الشعبي على السلطات بمختلف مستوياتها.

وعلى الرغم من أن الجانب السياسي والاقتصادي في اتفاق الرياض جاء لوضع حد للوضع المتردي؛ فإن الاتفاق يصبح غير قابل للتحقيق أكثر فأكثر مع تزايد عجز الدولة عن ملء فراغ السلطة، واستمرار تجميد المشاركة الشعبية في صنع القرارات والرقابة، وتزايد النفور بين مجموعات الصراع المتباينة؛ وفي مقدمتها حزب الإصلاح. سيبقى هذا العجز عائقاً أساسياً لتطبيع الحياة؛ لأنه يحول دون التخطيط والتقييم السليم لعمل السلطات المحلية والمركزية، وسيبقى حل هذه المشكلة أمراً مستعصياً ما لم يتم التعامل معها بطريقة مختلفة.

التخطيط للتنمية

يبذل رؤساء بعض المحافظات؛ كحضرموت في جنوب شرق البلاد، جهداً ملحوظاً للتنمية الاقتصادية، وتحسين الخدمات. ومع ذلك، فنادراً ما يصل ذلك الجهد إلى مستوى مُرضٍ للسكان؛ بالذات الخدمات الأساسية والحساسة؛ كالكهرباء، والتعليم، والخدمات الصحية.


هناك عدة عوامل تحول دون القدرة على إدارة الشأن المحلي بكفاءة، والتخطيط والتنفيذ في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ من أهمها تعطيل المشاركة الشعبية في صنع القرارات. ووفقاً لقانون الإدارة المحلية اليمني واسع الصلاحيات؛ فإن المشاركة الشعبية في صنع القرارات تتم من خلال المجالس المحلية المنتخبة من قِبل الشعب، والتي هي، حسب القانون، جزءٌ لا يتجزأ من سلطة الدولة. ولكن هذه المجالس باتت بلا فاعلية بسبب الصراع، ونقص التمويل، وتوقف الانتخابات.

تؤدي المجالس المحلية دوراً أساسياً في التخطيط للتنمية، متأثرةً بتطلعات الناخبين ووعود المرشحين؛ إذ يعتبر اقتراح البرامج التنموية والخطط الاقتصادية والموازنات الاستثمارية للوحدات الإدارية، كالمديريات والمحافظات، من سلطات تلك المجالس، والتي لها دور مهم في تنفيذ الخطط والبرامج المعتمدة. ومن بين ما تشمله مهام واختصاصات هذه المجالس أيضاً هو دراسة ومناقشة الحالة المالية، ومستوى تحصيل الإيرادات، والعمل على تنميتها، والتعرف على أسباب القصور فيها.

الرقابة والتقييم

دعا اتفاق الرياض إلى اتخاذ عددٍ من الخطوات الرقابية لتحقيق الشفافية وحسن إدارة موارد الدولة؛ منها تفعيل الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، وإعادة تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد؛ وهي كيانات تم تجميدها منذ زمن، مثلها مثل المجالس المحلية والبرلمان اللذين يمارسان أيضاً دور الرقابة والتقييم.

تخضع الأجهزة التنفيذية؛ أي جميع مكاتب وفروع الوزارات والمصالح والأجهزة الحكومية في الوحدات الإدارية، لرقابة المجالس المحلية المنتخبة، والتي لها سلطة مساءلة ومحاسبة تلك الأجهزة. كما تشمل مهامها الرقابية الأخرى تقييم مستوى تنفيذ الخطط والبرامج، ومراقبة تنفيذ سياسات التوظيف والقوى العاملة.

وبالإضافة إلى المجالس المحلية، يقوم البرلمان (مجلس النواب)، المنتخب أيضاً، بدور رقابي وتقييمي على أعمال السلطة التنفيذية، إضافة إلى دوره التشريعي والمالي؛ وهو دورٌ يمتد إلى حق استجواب رئيس مجلس الوزراء أو نوابه أو الوزراء، لمحاسبتهم أو حتى سحب الثقة منهم.

التحدي الصعب

على الرغم من الأدوار المهمة التي قاما بتأديتها؛ فإن وضع المجالس المحلية والبرلمان لم يكن مثالياً في يومٍ من الأيام، حتى منذ ما قبل الصراع، وقد ظلَّت صلاحياتهما الواسعة عُرضة للتقليص والتضليل في كثير من الأحيان من قِبل الحكومة المركزية والمُتنفذين. على سبيلِ المثال، كشفت وثيقة مسرَّبة من السفارة الأمريكية بصنعاء في عام 2009 عن أن وزارة النفط اليمنية ربما كانت تتعمد إخفاء معلومات دقيقة عن البرلمان، رغم إلحاح البرلمان في طلبها؛ لأنها كانت تتستر على أنشطة غير مشروعة.

وعلى الرغم من الفساد وانعدام الشفافية؛ فإنه يمكن القول، من الناحية النظرية، إن تطبيق قانون الإدارة المحلية واسع الصلاحيات، وتفعيل المجالس المحلية والبرلمان، يمكن أن يؤدي إلى إعادة الرقابة الشعبية على أجهزة الدولة، والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات وتقييمها بطريقة تحقق بعضَ الرضا للسكان. كما يمكن أن يؤدي تنافس المُرشحين لشغل هذه المقاعد إلى تحفيز التنمية والاقتصاد والخدمات من أجل استقطاب أصوات الناخبين.

ولكن واقع الصراع الآخذ في التأزم يفرض تحدياتٍ أوسع من مجرد تفعيل هذه الكيانات واستئناف الانتخابات وما إلى ذلك؛ فلقد بقيت هذه الكيانات لثلاثة عقود، ولا تزال إلى الآن، تحت سيطرة حزبَي المؤتمر العام، الحزب الحاكم إلى ما قبل الثورة، والإصلاح، ذي التوجهات الإسلامية السياسية. وكمثال بسيط، لا يزال الزعيم البارز في حزب الإصلاح، حميد الأحمر، أحد أعضاء لجنة التنمية والنفط والثروات المعدنية بالبرلمان على الرغم من علاقاته المشبوهة بتركيا وقطر.


الزعيم البارز في حزب الإصلاح وعضو البرلمان اليمني حميد الأحمر مع الرئيس التركي – وكالات
من غير المرجح أن يقبل الشعب، بالذات في الجنوب، عودة أعضاء هذه الأحزاب إلى الواجهة، أو استمرارهم أو ترشحهم لشغل مقاعد في المجالس المحلية أو البرلمان، وذلك بعد سلوكِ الكثير منهم المُتصف بالعنف، واللا مسؤولية والتهوُّر؛ بل والتطرف.

ويعني هذا، عملياً، استحالة عودة الحياة السياسية إلى فترة ما قبل ثورة الشباب في عام 2011، وأن التفكير في وضع خاص وجديد كلياً في المناطق المحررة، خصوصاً الجنوب، هو مطلب أساسي لا مفر منه؛ لتحقيق الحكم الرشيد والاستقرار في اليمن والمنطقة

الإخوان والحوثيون وجهان لعملة

على الرغم من عمق العلاقات التركية- اليمنية من الناحية التاريخية والثقافية، بفضل الوجود العثماني القديم في اليمن؛ فإن العلاقات الدبلوماسية بين الجمهورية التركية الحديثة واليمن تذبذبت بين الضآلة والمحدودية الشديدة لعقود طويلة، ويعود ذلك جزئيًّا إلى دأب معظم الحكومات المتعاقبة في تركيا على تبنِّي نهج مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، في التوجُّه نحو العالم الغربي، بدلًا من الارتباط التقليدي لتركيا بالعالم الإسلامي وشمال إفريقيا.


ولكن العلاقات اليمنية- التركية المحدودة أخذت منحى متطورًا منذ قيام كل من رجب طيب أردوغان، وصديقه عبدالله جول، بتأسيس حزب العدالة والتنمية ذي التوجهات الإسلامية في عام 2001م، وما تَبِع ذلك من انفتاح على العالم الإسلامي وإفريقيا في السياسة الخارجية التركية، فبدأت دلائل الاهتمام التركي باليمن تتضح من خلال اهتمام رجال الأعمال الأتراك بالاستثمار في المنطقة الحرة بعدن في عام 2006م؛ حيث بدؤوا في إقامة مشروعات عملاقة بتكاليف زادت على نصف مليار دولار أمريكي.

في عام 2007م تولَّى عبدالله جول رئاسة تركيا، وفي إشارة أخرى إلى توجهات الحزب والسياسات التركية نحو اليمن قام جول في عام 2011م، بزيارة إلى صنعاء هي الأولى من نوعها لرئيس تركي يزور اليمن. رافق عبدالله جول في زيارته وفدٌ كبيرٌ ضم شخصيات رفيعة المستوى؛ بينها نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع، لتوقيع اتفاقيات تجارية وبرامج تعاون؛ منها إلغاء التأشيرات بين البلدَين. وقد سبقت تلك الزيارة التاريخية ثورةَ الشباب اليمنية بأيام قلائل فقط.


ثورة الشباب

كان أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في اليمن، أو ما يُعرف بـ”حزب الإصلاح”، الأكثر بروزًا وشهرةً في ثورة الشباب في عام 2011م؛ حيث ظهرت توكل كرمان كقيادية في الثورة، وهي ناشطة وصحفية يمنية من أصول تركية، وعضو اللجنة المركزية للحزب. نالت كرمان جائزة نوبل للسلام في عام الثورة، والتقت وليَّ العهد القطري في الدوحة في العام نفسه، وفي العام التالي التقت الرئيس التركي ووزير الخارجية، ونالت الجنسية التركية، وصرَّحت بفخرٍ، حينها، بأن الجنسية التركية أكثر أهمية من جائزة نوبل.

وإلى جانب كرمان، انضم إلى ثورة الشباب كلٌّ من علي محسن الأحمر، الذي كان أحد أهم أذرع علي صالح العسكرية، وأبرز مؤسسي حزب الإصلاح، وكذلك صادق الأحمر، القيادي البارز في الحزب والابن الأكبر لأبرز مؤسسيه، عبدالله بن حسين الأحمر. أكدت مشاركات مثل هذه الشخصيات طموحات الحزب بالاستئثار بقوة في حكم اليمن الجديد، أو حتى الانفراد بحكمه كما حصل مع الإخوان المسلمين في مصر.

تلقَّى حزب الإصلاح الدعم من الحكومة التركية من خلال مساعدة حميد الأحمر، الزعيم البارز في الحزب، على توسيع إمبراطوريته التجارية، كما مُنحت الشركات التجارية التركية امتيازات ووكالات في السوق اليمنية، واستقبلت تركيا الفارّين من الاضطرابات في البلاد، مستفيدين من اتفاقية إلغاء التأشيرات الموقَّعة قُبيل الثورة بأيام، وفتحت تركيا مستشفياتها لعلاج الجرحى من أعضاء الحزب، كما قدَّمت مساعدات مالية وعينية بقيمة عشرة ملايين دولار إلى اليمن. توالت الزيارات التركية رفيعة المستوى إلى اليمن؛ ومن بينها زيارة وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، في 2012م، وزيارة رئيس المخابرات هاكان فيدان، في 2013م.

مصالح مشتركة

لم يكن التقارب التركي- اليمني سوى تقارب بين حزب العدالة والتنمية التركي وفرع جماعة الإخوان المسلمين في اليمن، وذلك بفضل أيديولوجية الطرفَين التي اجتذبت أيضًا طرفًا ثالثًا في الصراع اليمني، وهو دولة قطر؛ فوفقًا لوثيقة مسربة من السفارة السعودية في اليمن عام 2012م، تم الكشف عن تخصيص قطر مبلغ 250 مليون دولار؛ من أجل دعم حميد الأحمر، ليقوم بدوره بدعم الاحتجاجات في القوى الأمنية والعسكرية في اليمن والتحريض على التمرُّد.

هاجر الأحمر إلى تركيا قُبيل سقوط صنعاء في يد الحوثيين، وأصبح يُدير مخططه من هناك؛ حيث قدَّمت له تركيا الملاذ الآمن والفرص الاستثمارية الضخمة لأمواله المنهوبة من موارد الشعب اليمني. كما أصبحت تركيا حاضنةً لمجاميع أخرى من أعضاء حزبه الذين يستثمرون أموالهم فيها؛ مستفيدين من تعاون السلطات التركية وأوجه قصورها في ما يتعلق بمعالجة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وهو القصور الذي دفع وكالة مراقبة غسيل الأموال العالمية، في العام الماضي، إلى تحذير السلطات التركية من احتمالية إضافتها إلى “القائمة الرمادية” للدول التي تفتقر إلى ضوابط مالية كافية؛ وهي القائمة التي تضم دولًا مثل باكستان واليمن.

وجهان لعملة واحدة

من بين أبسط الأدلة على قصور النظام المالي التركي الداعم للإرهاب وغسيل الأموال، هو الأرصدة المالية الموجودة هناك، والتي تخص زعيم جماعة الحوثي المتمردة في اليمن عبدالملك الحوثي، وقياديين بارزين آخرين في الجماعة. وقد أعلنت تركيا تجميد تلك الأصول تنفيذًا لقرار الأمم المتحدة في عام 2016م، واستمرت في تجديد التجميد سنويًّا حتى العام الماضي، بينما لم يُنشر بعد خبر تجديد التجميد الذي انتهى في فبراير 2020م.

وإلى جانب تركيا تبرز قطر كداعم للحوثيين أيضًا؛ حيث أظهرت وثيقة مسرَّبة من السفارة الأمريكية في الدوحة عام 2009م، أن رئيس الوزراء القطري قال إن الرئيس اليمني علي صالح، يعتقد أن القطريين يموِّلون المتمردين الحوثيين. سبق أن قدَّمت قطر المعونات المالية لحكومة صالح في حربه ضد الجنوب في عام 1994م؛ بفضل علاقاتها بالإخوان المسلمين في اليمن، والذين وقفوا إلى جانب صالح مع جماعات إرهابية أخرى. وبالتالي، من البديهي أن يعلم صالح متى ولماذا ولمَن تُقَدِّم قطر التمويل في اليمن؟

يمثِّل الإسلام السياسي المحور الأساسي الذي تدور حوله العلاقات التركية- القطرية، والذي يصل تأثيره المدمِّر إلى دول كاليمن، كما تدفع الالتزامات الأيديولوجية المشتركة بين الدوحة وأنقرة البلدَين إلى مزيد من التعاون في مجموعة متنوعة من القطاعات؛ بما في ذلك الدفاع والخدمات المالية والإعلام، وهو تعاون أتاح للإخوان المسلمين اليمنيين في تركيا توليد وتوجيه دعم مالي واستخباراتي وإعلامي لتحقيق طموحاتهم المتناغمة مع توجهات حزب العدالة والتنمية.