الانتقال السريع والسلس للسلطة..
تقرير: الكويت.. كيف واجهت تبعات مسايرة بلدان الخليج بتناقل السلطة؟
هرم الطبقة الحاكمة في الكويت وإعراضها عن تسليم السلطة لجيل جديد على غرار ما أقدمت عليه بنجاح دول خليجية أخرى سيكونان من ضمن المشكلات التي ستواجه الكويت في مرحلة ما بعد الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد، الذي لطالما غطّى بميزاته الشخصية وبمكانته الفريدة على الكثير من المشكلات.. مكانة تجاوزت حدود بلده إلى الإقليم وأتاحت له لعب دور الوسيط المقبول من جميع الفرقاء بغض النظر عن مدى نجاحه في حلّ الخلافات وإنهائها.
صرفت عملية الانتقال السريع والسلس للسلطة في الكويت الأنظار، بشكل مؤقّت، عن التأثيرات المحتملة لاختفاء الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح من المشهد المحلّي والإقليمي بكلّ ما مثّلته شخصيته الاستثنائية من رمز لجمع الشتات وتطويق الخلافات في مشهد كويتي ضاجّ بالصراعات، وبكل ما بذله من جهود للحفاظ على الهيكل الجامع لدول الخليج؛ مجلس التعاون الذي شهد خلال السنوات الأخيرة أكبر امتحان لقدرته على الصمود والاستمرار، بسبب الخلاف الذي نشب بين قطر من جهة والسعودية والإمارات والبحرين من جهة مقابلة، والذي رحل الشيخ صباح دون أن ينجح في إنهائه رغم ما بذله من جهود مرهقة لمن هم في سنّه وحالته الصحية.
رحيل الشيخ صباح لم يُحدث فراغا إقليميا فحسب، لكنّه وضع الكويت، بدورها، أمام جملة من التحديات رصدها تقرير حديث نشره المعهد الملكي للخدمات الموحّدة لدراسات الدفاع والأمن، تحت عنوان “تغيير القيادة في الكويت يترك المزيد من علامات الاستفهام لمجلس التعاون الخليجي” وورد فيه أنّ الأسرة الحاكمة في الكويت أصبحت تواجه تبعات إعراضها عن خيار نقل السلطة إلى جيل جديد على غرار ما قامت به بلدان الخليج من حولها حيث يبلغ الأمير الحالي الشيخ نواف الأحمد من العمر 83 عاما، ولا يصغره ولي عهده الشيخ مشعل الأحمد سوى بثلاث سنوات فقط.
ويفسّر التقرير هذا الخيار الكويتي بالرغبة في الحفاظ على استقرار السياسة قدر الإمكان في عالم يشهد تغيرات سريعة داخل المنطقة وخارجها، وهو أمر مفهوم نظرا إلى أهمية الأحداث العالمية وخطورة المشكلات المالية التي تواجهها الكويت حاليا.
لكن مشكلة هذا الأسلوب الكويتي الحذر تجعله شبيها بطريقة انتقال السلطة بالاتحاد السوفييتي في ثمانينات القرن الماضي، إذ قد يؤدي الإصرار على تداول السلطة بين قيادات مسنة على مدى السنوات القليلة المقبلة إلى زعزعة استقرار البلاد في نهاية المطاف نظرا لعدم توافق هذا النوع من القادة مع طبيعة المرحلة الصعبة اقتصاديا وسياسيا.
ويقارن التقرير بين النموذج الكويتي المتحفظ على تسليم السلطة لجيل جديد، والنموذج السعودي والإماراتي والقطري والبحريني، حيث تمّ التحوّل إلى جيل من القادة الشبان بعضهم في سنّ أحفاد أمير الكويت الجديد.
وحتى سلطنة عُمان ينطبق عليها نموذج تمكين الشباب من مواقع متقدمة في سلّم المسؤولية، وذلك مع بروز نجم السيد ذي يزن بن هيثم في منصب وزير للثقافة والرياضة والشباب ضمن الهيكل الحكومي الجديد الذي وضعه والده السلطان هيثم بن طارق.
ولم تكن الكثير من العيوب ظاهرة في عهد الشيخ صباح الذي غطّى على هرم طاقم الحكم في الكويت بميزاته الشخصية وما كان يحظى به من احترام الجميع على مستوى العالم، كما أن تعامله الماهر مع الشؤون الخارجية، باعتباره صديقا للجميع، كان يعني أن تظل بلاده بمنأى عن الغضب الإقليمي. ونظرا إلى حالة الاستقطاب التي طبعت الحياة السياسية في المنطقة العربية والخليج بعد اندلاع أحداث الربيع العربي مطلع العشرية الحالية، يعد هذا إنجازا مثيرا للإعجاب، وفق توصيف محرر التقرير مايكل ستيفنز.
فمن مآثر أمير الكويت الراحل أنّه كان يتعامل مع تغيير اجتماعي وسياسي جذري في بلاده، وغالبا ما يسهل نسيان أنه لم يكن يمتلك ترف تجاهل السياسة الداخلية في ظلّ وجود برلمان حركي كثير المعارضة والاحتجاج على سياسات الحكومة وحتى على قرارات الأمير، ومع وجود صحافة تمتلك هامشا من حرية النقد والتعبير. ولكن، وعلى الرغم من الاضطرابات السياسية التي أنتجت خمسة برلمانات في سنوات معدودة، ظل الشيخ صباح فوق الاضطرابات، وحافظ على الهيبة والاحترام اللذين لم يكونا متاحين لآخرين من أعضاء أسرة آل الصباح الحاكمة.
الأسلوب الكويتي الحذر في عملية نقل السلطة يشبه تداول الرؤساء المسنين على الحكم في أواخر عهد الاتحاد السوفييتي
ولم يدفع الشيخ صباح بلاده إلى المغامرة في سياستها الخارجية، ومع ذلك لم يجعلها عديمة الأهمية إقليميا ومفتقرة إلى الجرأة والمبادرة مثل أشقائها في دول مجلس التعاون الخليجي الذي كان حتى آخر مراحل حياته مصرّا على الحفاظ عليه وحمايته من التفكّك.
وقد تجلّى إصراره ذاك في ما بذله من جهود قبيل وفاته لتطويق الخلاف بين قطر وجيرانها. فمنذ أن بدأت المشاحنات في سنة 2014 بذل جهدا هائلا في الوساطة بين الأطراف المختلفة ونجح إلى حين. وفي 2017 ومع الانقسام الثاني والأكثر حدّة سعى الشيخ صباح الذي بدأت صحته تتدهور حينها إلى الوساطة مرة أخرى. وكان يتولّى القيادة في الواجهة في حين كان من الأنسب لمن هم في سنّه الركون إلى الراحة وعيش حياة أكثر هدوءا.
وعلى الرغم من فشل المسار الكويتي هذه المرة، فإن وفاة الشيخ صباح قد تشكّل علامة سيئة في العلاقات الخليجية. فقد كان المسار الكويتي هو الأنجع، وقد احترم كلٌّ من القطريين والسعوديين أمير الكويت الراحل بما يكفي للترحيب بأفكاره والتعامل مع مبادراته بطريقة أظهرت احترامهم العميق له.
ومن دون الشيخ صباح سيكون من الصعب إيجاد مسار كويتي للمصالحة بين الدوحة من جهة، والرياض وأبوظبي والمنامة من جهة مقابلة. وبذلك تصبح احتمالات ترميم الصدع الخليجي أبعد.
وقد مثّلت وفاة الشيخ صباح ضربة مزدوجة للقطريين في أقل من سنة بعد وفاة قائد خليجي تعتبره الدوحة معتدلا ومحايدا في نزاعها مع العواصم الخليجية الثلاث، وهو السلطان قابوس بن سعيد سلطان عُمان السابق.
وبهذه المعطيات سيكون من الصعب تحديد وجهة سياسات الخليج إزاء الخلاف بين قطر ودول التعاون الثلاث المقاطعة لها حيث كل من السلطان قابوس والشيخ صباح قد اشتركا بشكل وثيق في إنشاء مجلس التعاون الخليجي في 1981 وكانا متأكّدين من استمراريته.
وفي حين يدرك السعوديون والإماراتيون والقطريون قيمة مجلس التعاون، يترك الخلاف العميق بينهم بعد ثلاث سنوات من الانقسام القليل من الأمل في عودة المؤسسة إلى موقعها كهيئة فعالة في المستقبل.
ويبدو قول السياسي والمفكر البريطاني إينوك باول بأن “جميع المهن السياسية تنتهي بالفشل” هو الأنسب لوصف عهد أمير الكويت الراحل. فعلى الرغم من كل الصعوبات التي واجهها في الداخل والتي تغلب عليها بنجاح، فسيكون إرث سياسته الخارجية هو الذي سيتذكره العالم به رغم أنّ أسلوبه السلس وسياساته القائمة على ميزاته الشخصية لم يكونا كافيين في النهاية للتخفيف من الانقسامات العميقة التي توسّعت في الخليج مع أحداث الربيع العربي. فقد كان كلّما حاول حل مشكلة أصبح موقفه أضعف. وعلى الرغم من كل جهوده فقد كفت الكويت عن أن تكون وسيطا فعالا تحت قيادته، ويصعب أكثر توقع استعادة الكويت لمكانتها كوسيط ناجع الآن بعد رحيله.