أمن الخليج العربي..
تقرير: السجال الدبلوماسي بين القوى العظمى.. من يكسب النقاط؟
يدرك المراقبون أن السجال الدبلوماسي الدائر بين القوى العظمى حول أمن الخليج العربي لن يخرج من نطاق الاستراتيجيات الدبلوماسية لكسب النقاط. ويبدو ذلك جليا من خلال تمسك الولايات المتحدة برفض المبادرة الروسية بشأن “إقامة نظام فعال للأمن الجماعي في الخليج العربي”. فرغم أن واشنطن يمكنها انتهاج استراتيجية تشاركية أكثر استدامة لأمن المنطقة بدلا من التي اتبعتها بشكل أُحادي على مدى العقود الماضية، فإن إصرار موسكو على خطوتها في هذا التوقيت يبدو مثيرا للاهتمام.
يفتح إصرار روسيا على الزج بمبادرتها القديمة – الجديدة لإرساء أسس مستقبلية لأمن الخليج العربي بهدف إنهاء التوترات الجيوسياسية في المنطقة جدلا دوليا جديدا حول السياسة الخارجية للكرملين وكيفية تعامله مع القضايا الدولية.
ورغم أن الخطوة الجديدة تُصنف على أنها قد تضفي المزيد من الاستقرار في منطقة متوترة حتى بوجود حليفتها إيران، فإن البعض من المتابعين يشدّد على أن موسكو تريد الدخول على خط الأزمة كي تكسب كعادتها مغانم سياسية تدعم نفوذها في المنطقة وفي العالم عبر استنساخ تجربتها في السنوات الأخيرة بسوريا وتطبيقها في مختلف مناطق التوتر.
وقوبلت دعوة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الثلاثاء الماضي، خلال اجتماع افتراضي رفيع المستوى لمجلس الأمن، إلى بذل جهود جماعية لمنع حرب واسعة النطاق في الخليج العربي، التي حصلت على دعم قوي من جميع أعضاء المجلس، بفيتو من الولايات المتحدة، التي ترى أن إيران هي المتسببة الرئيسية في المشاكل وأنها يجب أن تحاسب على دعم الإرهابيين وزعزعة استقرار المنطقة.
ومع أن موسكو ترى أنه تم تجنب أسوأ سيناريو بعد مقتل قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، لكن لافروف لم يخف القلق من انفجار أزمة في أي لحظة وقال إن “الوضع لا يزال هشا وقد يصبح خطيرا ولا يمكن التنبؤ به مرة أخرى”.
ولذلك تعتقد روسيا، التي تتولى رئاسة المجلس الشهر الجاري، أنه إذا عملت القوى العظمى معا بشكل مفتوح وحيادي وإذا اتسقت الإرادات السياسية فسيكون الجميع قادرين على مساعدة دول الخليج في التغلب على هذا التاريخ الصعب عبر خلق نظام فعال للأمن الجماعي.
والمبادئ الرئيسية للمفهوم الروسي لأمن الخليج تتلخص في التعددية والالتزام الصارم بالقانون الدولي، وعلى رأس ذلك ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن. ويتمثل التحدي الاستراتيجي الذي يلوح في الأفق والمبين في وثيقتها في إنشاء آلية شاملة للأمن الجماعي في المنطقة والتعاون بين جميع الدول في المنطقة على قدم المساواة.
الخليج نقطة محورية
وجد مقترح روسيا للأمن الجماعي في الخليج العربي رفضا كبيرا من الولايات المتحدة، ولها تبريرات في ذلك، وروجت بدلا من ذلك لنهج إدارة الرئيس دونالد ترامب الجديد في منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك دورها الرئيسي في تعزيز العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل والإمارات والبحرين.
وجمع الرد الأميركي على المبادرة الروسية، والذي جاء على لسان السفيرة الأميركية كيلي كرافت، لدى الأمم المتحدة في طياته الفكرة التي تريدها الولايات المتحدة، فالحل يبدو أسهل بكثير ويتمثل في حشد الشجاعة لمحاسبة إيران على التزاماتها الدولية الحالية، وهو نابع من إدراك عميق بأن طهران هي أكبر تهديد منفرد للسلام والأمن في الشرق الأوسط.
وتراقب واشنطن تطوير إيران للصواريخ الباليستية ودعمها لوكلائها في اليمن وسوريا ولبنان والعراق، قائلة إنها ستواصل محاسبة إيران، حتى لو كان ذلك يعني أنه يجب عليها التصرف بمفردها لأن ما يجعلها تعمل على ذلك هو أنها لا تخشى الدفاع عن الصواب وليست بحاجة إلى قسم مبهج للتحقق من صحة بوصلتها الأخلاقية، كما تقول كرافت.
ويقول محللون سياسيون إن روسيا، رغم ما تعانيه من ضعف في الداخل ورغم العقوبات، استفادت من ضعف المنظومة العالمية. لكن، في المقابل يلفتون إلى أن الأمر يسبق وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ويعود أساسا إلى استراتيجية التحول الأميركي نحو آسيا لمواجهة الصين.
ويعمل الروس على الحفاظ على علاقتهم بالخليجيين وخاصة السعودية والإمارات، وفي الوقت نفسه مع إيران لتحقيق نقاط استراتيجية، غير أن روبرت مالي، رئيس مجموعة الأزمات الدولية، يحذر من أن الصراع على مستوى المنطقة والذي يلوح الآن في الأفق الأكبر في جميع أنحاء العالم هو صراع لا يريده أحد، وعلى ما يبدو أنه صراع أثارته التوترات في منطقة الخليج.
ورغم أن المحلل مالي استبعد خلال تصريح لوكالة أسوشيتد برس أن ذلك أمر غير محتمل اليوم، لكنه قال إن “هجوما واحدا بصاروخ أو طائرة دون طيار أو لغم لا يمكن تجنبه يمكن أن يؤدي إلى تصعيد عسكري بين الولايات المتحدة وإيران وحلفائهما الإقليميين ووكلائهما، قد يكون من المستحيل احتواؤه“.
ويعتقد رئيس مجموعة الأزمات الدولية بأن الحوار الأمني الإقليمي الشامل والجماعي الهادف قد يؤدي إلى تخفيف التوترات وقد يمنح فرصة ضئيلة للتجسد وفرصة أقل للنجاح، لكن في ظل الظروف الحالية سيكون عدم المحاولة سلوكا غير مسؤول.
وأيا كانت الأسباب التي دفعت روسيا إلى طرح مبادرتها في هذا التوقيت، فإن لذلك أثره السلبي بالنسبة لدول الخليج فهو يأتي في وقت بدأت تصعد فيه إيران من لهجتها تجاه الدول الخليجية وخاصة السعودية بعد رفع الحظر الأممي على تجارة السلاح، وتوجيه ميليشياتها في اليمن والعراق لممارسة دور تخريبي كرد فعل على العقوبات الاقتصادية الأميركية التي دمرت اقتصادها.
وتقوم الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط على أساس تفعيل ما يُسمى مبدأ “تقاسم الأعباء أو المسؤوليات” بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا، مع بدء حوار استراتيجي مع الخصوم مثل روسيا والصين. وقد دعم حلفاء الولايات المتحدة إجراءات بناء الثقة في الخليج وشددوا على دعمهم للاتفاق النووي لعام 2015 مع إيران الذي انسحب الرئيس دونالد ترامب منه في عام 2018 لكنهم انتقدوا إيران بشدة لأنشطتها المزعزعة للاستقرار.
جذور تاريخية
شكل أمن منطقة الخليج معضلة دولية وإقليمية منذ عقود، فالولايات المتحدة تعتبر أنه مرتبط بأمن منابع النفط وطرق إمداده وبحكم موقعها الجغرافي يعد عاملا مؤثرا في أمن إسرائيل أيضا، لكن ترامب كان له رأي آخر حيث راح يقلل من أهمية المنطقة النفطية بالنسبة إلى الاستراتيجية الأميركية، فقد قال في أيامه الأولى في البيت الأبيض “نحن لم نعد في الموقع الذي كنّا فيه سابقا في الشرق الأوسط”.
وعلى الرغم من أن الوضع تغير في الشرق الأوسط خلال العقد الماضي بسبب ما يسمى بـ”ثورات الربيع العربي” وتبعاتها على دول الخليج، لكن كان من الواضح أن دخول موسكو في الصراع السوري لنجدة نظام بشار الأسد مؤشر على عودة “الدب الروسي” إلى المنطقة مع الحفاظ على نفس المسافة من الجميع.
وهنا، فإن مواجهة الولايات المتحدة لهذا المعطى كان على أساس قديم ظهر في يناير 1980 بعنوان “مبادئ كارتر”، التي تعتبر منطقة الخليج العربي جزءا من المصالح الحيوية والاستراتيجية الأميركية، وأي محاولة للسيطرة عليها تستدعي استخدام القوة المسلّحة الأميركية للدفاع عنها.
الروس يراهنون على إعادة تموضعهم في المنطقة لتحقيق الأهداف الجيوسياسية بالتدخل على خط القضايا المتشابكة
ويؤكد محللون أن هذه المبادئ نشأت على خلفية الاجتياح السوفييتي لأفغانستان، وخشية الولايات المتحدة من تهديد مزعوم لمصالحها ومصالح حلفائها في الخليج العربي وكانت بذلك تعبّر عن فكر جيوسياسي أساسه عدم وصول الاتحاد السوفييتي إلى المياه الدافئة، التي تتمثّل هنا في المحيط الهندي، بالإضافة إلى البحر المتوسط.
ولهذا السبب أنشأت الولايات المتحدة حلف بغداد عام 1955، والذي شكل الجزء الجغرافي الجنوبي لعملية الطوق الأميركي على الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة في سلسلة من التحالفات العسكرية امتدت عبر الأطلسي من الغرب وجنوب وشرق آسيا.
ولكن منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وحتى مجيء ترامب كانت مفاهيم معينة تحكم الرؤية الأميركية للصراع الدولي، حيث قام الرئيس الحالي، الذي يتطلع إلى ولاية ثانية، بإعادة خلط الاستراتيجيات حتى إن التكتيكات الميدانية، التي اتّبعها كانت متناقضة بالتبعية الاستراتيجية.