الاتحاد الأفريقي لا يزال مقيدا

الاتحاد الأفريقي وشرط فك الارتباط مع التبعية

في الأيام القليلة الماضية شاهدت العاصمة أديس أبابا أشغال الاتحاد الأفريقي الذي تأسس في العام 2002 والذي حل محل منظمة الوحدة الأفريقية التي تأسست عام 1963، ولقد تميز هذا الحدث بعودة المملكة المغربية إلى العائلة الأفريقية الكبرى.

لا شك أن الاتحاد الأفريقي لم ينطلق منذ تأسيسه من الفراغ، بل هو وريث حركات التحرر الأفريقي ضد الاستعمار الأوروبي، فضلا عن كونه الفضاء الذي انطلقت منه البشرية الأولى وانتشرت في العالم بأسره وفق ما أكد عليه المؤرخون الأكثر موضوعية وإنصافا.

لا شك أيضا أن الحضارة الأفريقية عريقة وأصيلة ويشهد على ذلك أحد كبار المؤرخين المعاصرين وهو مارتن برنال الذي أبرز بقوة الحجة العلمية، في كتابه الضخم “أثينا السوداء” المؤسس على أحدث وأرقى نظريات ومناهج علوم الدراسات التاريخية الحضارية المقارنة، حقائق مفصلية في حركة التاريخ الإنساني التي كثيرا ما عمل ولا يزال يعمل عدد لا يستهان به من المؤرخين المتمركزين غربيا على طمسها، وتتمثل أطروحة برنال المركزية في أن الحضارة الكلاسيكية اليونانية، التي يعدها الغرب جذره الأصلي والمحوري، تدين بالكثير للتأثيرات الثقافية والحضارية الأفريقية العميقة، وهو ما أكده أيضا شيخ التاريخ العالمي هيردوتس منذ 24 قرنا.

وهنا ينبغي طرح مجموعة من الأسئلة قصد النظر في بعض المشكلات الكبرى التي تتناقض مع أبعاد هذا الموروث الأفريقي العظيم، وهي المشكلات التي لا يزال الاتحاد الأفريقي لم يجد لها حلولا ناجعة تمكنه من نفخ الحياة مجددا فيه والعمل على تحديثه في هذه المرحلة المدعوة بمرحلة ما بعد الكولونيالية.

يلاحظ هنا أن الاتحاد الأفريقي لا يزال مقيدا بطور تأسيس الهياكل التنظيمية الأولية، وعدم الانتقال إلى طور بناء قطب أفريقي قوي، اقتصاديا وثقافيا وأمنيا وإعلاميا وتكنولوجيا وسياسيا، يؤهله لإحداث تحول جذري في بنياته القديمة، ويجعله لاعبا محوريا ومستقلا في الساحة العالمية.

من الملاحظ أن تسمية “الاتحاد الأفريقي” توحي مبدئيا بأن الطموح الأفريقي المركزي يتمثل في تجاوز منطق الدول القطرية ذات السياسات المختلفة، خاصة في مجال إقامة العلاقات الثنائية مع دول المعمورة إلى إنجاز الدولة الأفريقية الحديثة الكبرى متعددة الثقافات واللغات، والقوميات والحضارات المكملة لبعضها البعض، ولكن هذا المشروع لم ينجز بعد علما أنه محفوف بالكثير من الصعوبات التي تفرزها تعقيدات علاقات السيطرة التي تمارسها دول الشمال على دول الجنوب، وخاصة التعقيدات المترتبة على عدم فك دول أفريقيا للارتباط بالإرث الاستعماري الذي لم تتم تصفيته على المستويات اللغوية والثقافية، والاقتصادية والتكنولوجية وما يتصل بالخيارات السياسية أيضا.

لا شك أن عدم فك هذا الارتباط الذي لم تقم به الدول الأفريقية، سواء على المستوى القطري أو في إطار منظمة الوحدة الأفريقية أو في إطار الاتحاد الأفريقي، يتجلى مباشرة في استيراد نماذج التنمية من الخارج التي لا تتلاءم مع الشخصية الأفريقية الأمر الذي حال ولا يزال يحول دون استلهام تحديث نموذج الإنتاج الأفريقي الذي يتميز بخصوصية الهوية الجماعية الأفريقية التي ترتكز على ركائز الحضارة الأفريقية وعلى تراث حركات التحرر الأفريقي المعاصر.

إلى جانب هذه المشكلة القائمة هناك تحديات كبرى أخرى تواجه مسار التحرر ما بعد الكولونيالي الأفريقي، وتتمثل هذه التحديات في سلسلة من الظواهر وفي مقدمتها تبعية عدد من الدول الأفريقية للتنظيمات وللهيئات وللمؤسسات التي تتحكم فيها الدول الغربية منها الكومنولث البريطاني ومنظمة الفرنكوفونية بزعامة فرنسا. في هذا الخصوص فإن منظمة الكومنولث، التي تضم ما لا يقل عن 10 دول أفريقية من بين 53 دولة موزعة في العالم، ليست مجرد منتدى خيري بل هي تنظيم عابر للقارات تخضع الدول الأعضاء فيه لقوانين وأحكام ذات صلة بالخيارات السياسية، والعلاقات الاقتصادية، فضلا عن التبعية اللغوية وهي كلها لا تعكس غالبا طموحات القارة الأفريقية في إنجاز استقلالها الكامل سواء على المستوى القطري أو على مستوى القارة الأفريقية برمتها. وتعتبر بعض الموسوعات السياسية أن كتلة الكومنولث تمثل نمطا من الاستعمار الحديث الذي استبدل الاحتلال بالهيمنة الناعمة. وبهذا الصدد تقول إحدى هذه الموسوعات ما يلي “تضم رابطة الكومنولث الحديثة حوالي ثلث دول العالم، ويصل تعداد شعوب هذه الدول مجتمعة إلى 1.7 مليار نسمة يشكلون ربع سكان العالم. وتمثل دول الكومنولث الـ53 بعضا من أغنى دول العالم، وبعضا من أفقرها أيضا، وكذلك بعضها من أكبر دول العالم مساحة وبعضها من أصغرها. 34 دولة من بين 53 دولة عضوا في الكومنولث تصنف على أنها دول صغيرة (أغلبها دول جزر تعداد سكانها 1.5 مليون نسمة أو أقل).

أما التحدي الثاني الذي يواجه الاتحاد الأفريقي فيتلخص في ما يسمى بالتبعية اللغوية المرسمة في إطار ما يدعى بمنظمة الدول الفرنكوفونية بقيادة فرنسا، علما أن هذا النمط من التبعية يخفي أشكالا خطيرة من التبعية.

هذه المنظمة تبدو ظاهريا أنها ذات طابع لغوي محض ولكن حقيقتها أعمق وأبعد من ذلك فهي تهدف، وإن بشكل غير معلن، إلى تحقيق جملة من الأهداف تتجاوز فيها الوصاية السياسية الفرنسية على الدول الأعضاء فيها وعددها 55 دولة منها دول عربية أفريقية ودول أخرى في مختلف القارات، وتوضح هذا أدبيات منظمة الفرنكوفونية بلغة التعميم لتمرير الأهداف المسطرة في العاصمة الفرنسية حيث تنص كالتالي “تؤكد الفرنكوفونية وصايتها على الشأن السياسي في العالم بالنسبة للدول الأعضاء فضلا عن مساعدة الأعضاء على تنظيم الانتخابات واستيعاب بعض مشاريع التنمية الاقتصادية”. وهكذا ندرك أنه من غير المعقول أن تكون منظمة الفرنكوفونية مجرد منتدى لغوي اختياري بل إن بنيتها التنظيمية التي تؤكد التقارير أنها “تضم رؤساء الدول، والمؤتمر الوزاري للفرنكوفونية الذي يضم وزراء خارجية الدول الأعضاء، والمجلس الدائم للفرنكوفونية وهو مجلس إدارة الوكالة، والأمانة العامة، ومكاتب الوكالة الفرنكوفونية” تبرز أن سيناريو تبعية الدول الأعضاء للمركز الفرنسي على جميع المستويات قائم ولا يمكن التخلص منه إلا بفك الارتباط بكل عناصره ومكوناته المعلنة والمضمرة. علما أن تحقيق هذا الهدف الإستراتيجي مرهون بحسم الاتحاد الأفريقي لعدة مسائل منها إنجاز إقامة اقتصاد أفريقي جماعي نوعي مدعم بالعملة النقدية الأفريقية الموحدة، وإنشاء السوق الأفريقية المشتركة وتفعيل ركائز التنوع الثقافي والفكري والفني والإعلامي المشتركة، وتوحيد مضامين المنظومات التعليمية من أجل تشكيل قطب أفريقي مستقل له هوية متميزة وفاعل في المشهد العالمي.

كاتب جزائري