د. قاسم المحبشي يكتب:
فرحة الإنجاز العلمي ومرارة الخذلان الوطني!
( كنا نحلم بان يكون لحياتنا قيمة ومعنى في أرضنا. فبتنا نأمل بان يكون لموتنا معنى وكرامة في بلادنا )
اليوم حصلت على اللقب العلمي الأخير في مشواري الأكاديمي المرير، استاذا بامتياز؛ اليوم فقط وقبل قليل وافق مجلس جامعة عدن على استحقاقي للقب العلمي بدرجة استاذ (بروفيسور) وكنت حاضرا في اجتماع مجلس الجامعة الموقر المنعقد في المكتبة المركزية بمدينة الشعب، برئاسة أ. د. الخضر ناصر لصور، رئيس الجامعة، حضرت ممثلا عن عمادة كلية الأداب لانشغال الاستاذ العميد بمهمة تطبيع الوضع بالكلية بعد الارباك الذي احدثه هجوم صباح أمس المباغت على افراد الحراسة واستشهاد الحارس البطل شايع الحريري رحمة الله عليه. وإصابة الجندي الشجاع سالم المنصور الله يشفيه. ذهبت بخاطر منكسر ومشاعر مثقلة بالحزن والأسى مما حدث ومن خيبة الشأن العام ، فأعاد لي قرار الترقية بعض من الفرح المرّ، فرح عابر سبيل في قلب حزين! نعم فرحت بهذه الإنجاز الأكاديمي الغالي الذي أفنيت جل عمري في سبيله، والحصول على درجة الاستاذية في الأحوال الطبيعة يعد حدثا تاريخيا في حياة المواطن والوطن كما كنا نحلم زمان. أما اليوم في اليمن الخراب بالحروب والفساد فالأمر يشبه انتزاع لحظة فرح من براثن الوحش الرهيب! وأنا اتلقى التهاني والتبريكات من زملائي الاعزاء وزميلاتي العزيزات في مجلس الجامعة عاد بي شريط الذكريات الى بداية مشواري في درب التعليم الجامعي المضني في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حين التحقت بكلية التربية العليا عدن، قسم الفلسفة والاجتماع، الذي كان في زمانه قسما نخبويا أرستقراطيا للنخبة من الطلاب والطالبات الأذكياء وكنا ننظر الى بقية التخصصات العلمية الأخرى بعيون أفلاطونية معكوسة باستعلاء غبي بما في ذلك الطب والهندسة وذلك هو شأن كل ايديولوجية مهيمنة على الدوام!
وحينها ونحن في سنة ثالث بكالوريوس
اندلعت الحرب الأهلية بين الرفاق بتاريخ ?? يناير ????م كانت حربا عقائدية كارثية بكل المقاييس نجونا منها بأعجوبة! وتخرجت عام ???? بتقدير ممتاز ومرتبة الشرف وحصلت على ميدالية التفوق العلمي في عيد العلم، استلمتها رئيس الوزراء حينها الدكتور ياسين سعيد نعمان إذ لم تخني الذاكرة! بعد التخرج لم أفلح بالتعيين معيدا بالجامعة بالاستحقاق العلمي إذ كانت المزيدة الحزبية هي المعيار في نيل الوظائف العامة. واتذكر أن الاستاذ العمودي رئيس الجامعة أعطانا ورقة الى الدكتور عبدالعزيز المقالح رئيس جامعة للتعاون في قبولي وزميلي في كلية الآداب صنعاء، ذهبنا الى صنعا، وكان ما كان مما لست اذكره .. وعدت الى عدن وانتظرت حتى تم افتتاح برنامج الدراسات العاليا في قسم الفلسفة والاجتماع عام ????م بنخبة من الأساتذة العرب الدكاترة ومنهم: أحمد برقاوي ونمير العاني والطيب تيزيني وحامد خليل والخضر زكريا وعبدالسلام نورالدين وعبدالشافي صديق وعبدالرزاق عيد وغيرهم ممن لم تسعفني الذاكرة بهم. سجلت في البرنامج مع أول دفعة، وما أن أكملنا العام التحضيري حتى نشبت أزمة وحدة النفق اليمنية بين العليين الجنوبي والشمالي! وانتهت بحرب الاجتياح الغاشمة للجنوب وسقوط عدن في ?/?/ ????م وتدمير كل مؤسسات الدولة الجنوبية ونهبها.
كانت أيام بالغة القسوة والضراوة تجرعنا مرارتها حتى الثمالة.
ورغم ذلك استأنفت العمل في كتابة الرسالة وتمكنت من إنجاز الماجستير في (الوجود والماهية عند جان بول سارتر )عام ????م بإشراف الاستاذ الدكتور أحمد نسيم برقاوي بتقدير ممتاز. ثم تعينت معيدا في كلية الآداب بجامعة عدن، وفِي عام ???? ذهبت الى جامعة بغداد لتحضير أطروحة الدكتوراه في ( فلسفة التاريخ بالفكر الغربي المعاصر : أرنولد توينبي موضوعا) بإشراف الاستاذ الراحل مدني صالح الهيتي الف رحمة ونور تَغْشَاه، فكانت عاصفة الصحراء كارثة الكوارث، دمرت دولة العراق وجعلت بغداد العظيمة أطلال وخراب! ومع ذلك عدنا بعد الاجتياح الى بغداد بريمر القذر وعشنا عاما في صراع يوم مع الخوف والموت وبجهد جهيد تمكنت من إنجار الأطروحة ودافعت في سبتمبر ????م. وعدت الى عدن في زمن راصع المهرج الذي كان رئيسا للجامعة حينها؛ قابلته في مكتبه وسلمته شهادة الدكتوراه وقال لي بالحرف الواحد ???? يا محبشي اسمك بالقائمة السوداء) وبعد مماطلة طويلة تم إقرار لقبي العلمي استاذا مساعدا، ثم واصلنا العمل الأكاديمي في الجامعة وتسنمت رئاسة قسم الفلسفة وبدأت في عدن ثورة المقاومة المدنية والنضال السلمي فاشتركت بها منذ الوهلة الأولى بالميدان والإعلام والفكر، وفِي عام ???? حصلت على اللقب العلمي استاذ مشارك بتاريخ ذات دلالة حبتورية في ?/?/ ????م ، بمجئ حبتور أقصيت من رئاسة القسم وظليت أمارس عملي العلمي عضوا من أعضاءه، وأخذت اجازة تفرغ علمي في جامعة سيدي محمد عبدالله بالمغرب فاس وشاركت في مؤتمر علمي بالجزائر حتى نشبت ثورة التغيير والحرب الأخيرة قبل أربع سنوات وبسببها تأخرت في إنجاز الاستحقاق العلمي الاستاذية، والحمد لله اليوم حصلت عليه في ظل اوضاع كارثية لم تكن بالحساب، ولكن قدر الله وما شاء فعل.
أخيرا صرت استاذا في وطن هشيم ودولة في مهب العاصفة!
ويا فرحة ما تمت، نعم فرحت باللقب العلمي ولكن فرحة مصحوبة بمرارة ساحقة مما نحن فيه من حالة مؤسفة من التدهور والهوان في ظل غياب الدولة وضياع السيادة ! وليس هناك من مصيبة يمكنها أن تصيب الشعوب والأفراد اليوم بافدح من خراب مؤسساتهم وضياع دولتهم الوطنية الجامعة! فكيف لي أن أفرح ومن أي الجهات يستورد الفرح في هذا الأصقاع المسكونة بالحرب والجريمة والخوف والاغتراب؟! تنتابني الآن مشاعر شديدة التناقض من الحزن والفرح والقهر والضيق والحلم والأمل
إنجزت ثلاث ألقاب علمية في ظل أربعة حروب وطنية ولازالت الآخير مشرعة الأبواب واللهم طولك ياروح.
في الختام لا يسعني الا أن اشكر الأساتذة الإجلاء المحكمين للأبحاث
المقدمة لنيل درجة الاستاذية وهم:
الاستاذ الدكتور حسن مجيد العبيدي استاذ الفلسفة في جامعة المستنصرية ورئيس المجلة الفلسفية بالجامعة
والاستاذ الدكتور عبدالله محمد الفلاحي استاذ الفلسفة بجامعة إب ونائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية.
والاستاذ الدكتور علوي عمر مبلغ استاذ الفكر العربي الحديث والمعاصر في جامعة عدن، وعميد كلية الآداب.
واللمربين والمعلمين والأساتذة الذين كان لهم الفضل في تعلمي وتعليمي منذ المرحلة الابتدائية وحتى الدكتورة كل بصفته واسمه الكريم خالص المحبة والاعتزاز والتقدير.
والف رحمة ونور تغشاك يا أبي الحبيب
تمنيت أن تشاركني فرحتي المريرة هذه!