مناطحة الرئاسة
كلام عن مدحت المحمود الأميركي
ليس من واجب هذه المقالة أن تقف مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عزمه على منع دخول مواطنين عرب وإيرانيين إلى الولايات المتحدة الأميركية، لثلاثة شهور، ولا مع القاضي الذي أبطل أمرا لرئيس الولايات المتحدة الأميركية، ولا مع القضاة الثلاثة أعضاء محكمة استئناف كاليفورنيا الذين أيدوا حكم الإبطال.
فقد يكون القاضي عادلا ومستقلا في قراراه، وقد يكون قراره، كما اتهمه ترامب نفسه، مُسيّسا، وقد يكون هو نفسُه منخرطا في الصراع السياسي بين ترامب شخصيا والجمهوريين وبين الديمقراطيين ومن يقف معهم ويتأثر بمواقفهم، فلم يستطع الوقوف محايدا بين الفريقين المتصارعين.
ولكن أيا كانت التفسيرات والخلافات حول ما جرى، فإن الذي حدث ليس هو فقط إهانة من الوزن الثقيل يتلقاها رئيس أقوى دولة في العالم من حاكم صغير في ولاية بعيدة، بل هو إشكالية إنسانية شاملة تتلخص في صعوبة ضمان عدالة القاضي، وعدم تأثره بالصراعات السياسية والاقتصادية والثقافية.
فأين الخلل؟ وهل العيب في الوسائل الرقابية، أم في صلابة القوانين ووضوحها، أم في المناعة الأخلاقية التي يُفترض توفرُها فيمن يتولى الفصل في أمور الحياة، وتحقيق العدالة التي ينشدها الجميع؟
والذي يقيم في أميركا يدرك عدم صدق مقولة أن النظام الأميركي نقيٌ خالص من العيوب، وأن القانون فيه فوق الجميع، وفوق أي اعتبار. ففي أميركا مراكز قوى متصارعة مازال يجري فيها، على أرض الواقع، تمييز حقيقي بين ولاية وولاية، وبين نائب وآخر، وشيخ وشيخ في الكونغرس وشركة وشركة أخرى. ففي أميركا قد تجد شخصا واحدا في مجلس النواب أو الشيوخ، أو خارج السلطتين التنفيذية والتشريعية، أهم وأقوى وأشد تأثيرا من الرئيس نفسه، ومن عشرات النواب والشيوخ.
ورغم أن قرار القاضي جاء مستندا إلى ثغرة قانونية تسمح للقضاء في إحدى الولايات بمنع تنفيذ قرار فيدرالي، وتعميم المنع على أميركا كلها إذا ما رأى أن القرار الفيدرالي يهدد مصالح تلك الولاية ويضر بمواطنيها، إلا أن قوة قرار قاضي واشنطن الذي أبطل قرار الرئيس متأتية، أو مُسندة من قوة نفوذ الحزب الديمقراطي في ولايات أخرى.
وقد تبيّنت حماسة الديمقراطيين لقرار القاضي الذي أهان الرئيس الجمهوري في سرعة وشدة فرح الحاكم (الديمقراطي) لولاية واشنطن جي روير إنسلي، وحرارة تشفيه بخصمه العنيد ترامب، ولقاءاته العلنية مع مسلمي الولاية للتنديد بـ”عداء” الرئيس للإسلام والمسلمين.
كما بدا ذلك واضحا لكل ذي عين بصيرة في تأييد محكمة استئناف الولاية (الديمقراطية) العريقة، كاليفورنيا، لقرار الوقف، وظهور إشارات عديدة تؤكد احتمال أن تتحول المسألة إلى حرب شاملة بين الرئيس ترامب وبين القضاء الأميركي، ومن ورائه الحزبُ الديمقراطي، وقوى عديدة أخرى تعارض ترامب الذي أثار مخاوفها، والذي تتوقع منه إضرارا بمصالحها ونفوذها، بل تهديدا لوجودها ذاته، ومنها لوبيات متنفذة قوية تجرأ ترامب على محاربتها وتقويض عملها بمنعه المسؤولين الفيدراليين من العمل في أحدها قبل مضي سنوات على ترك الخدمة في الحكومة.
إضافة إلى اشمئزاز اللوبي الإسرائيلي وجمعيات المتدينين اليهود الأميركيين منه، ومن معارضته “العملية”، وليست “اللفظية”، لوجود المستوطنات في القدس المحتلة والضفة الغربية، وتراجعه عن وعده بنقل سفارة أميركا إلى القدس. وقد ظهرت تلك الكراهية في خروج مراكز قوى وكنائس يهودية عديدة عن صمتها، والتظاهر ضد قراره الخاص بمنع المسلمين من دخول أميركا. بل إن كنائس يهودية فتحت أبوابها لمسلمين للصلاة فيها، نكاية به وزيادة في الإهانة والتحقير والتحريض.
ولكن ترامب أثبت أنه ليس ذلك “الأهبل” كما يظن كثيرون. فقد أدرك عمق الهوة التي تنتظره لو عمد إلى التصعيد السياسي والقانوني مع قاضي ولاية واشنطن، ومع محكمة استئناف سان فرانسيسكو، فاختار الصمت والبحث عن وسائل تنفيذية أخرى لمنع دخول مواطني ست دول عربية وإيران إلى أميركا لا يحق للقضاء أن يتدخل في منعها أو عرقلة تنفيذها، دون أن يدخل في حربِ تكسير عظام مع الديمقراطيين الذين ركبوا موجة “الرحمة” و”الإنسانية” و”احترام” الإسلام والمسلمين، واستثمروها إلى أبعد الحدود.
المهم في الموضوع لتفسير عنوان المقالة (قضاء مدحت المحمود الأميركي) مسألتان، الأولى هي وجه الشبه العجيب بين قضاء أقوى دولة ديمقراطية في العالم وبين القضاء العراقي “المستقل” الذي تحكـَّم فيه واحدٌ اسمُه مدحت المحمود ثلاثَ عشرة سنة كان فيها الخادم الأمين لحزب الدعوة، ولشخص ولي أمره، نوري المالكي، على وجه الخصوص، الذي احتفظ بقوته وقدرته على التأثير، حتى وهو خارج السلطة، كما هو حال باراك أوباما وهيلاري كلينتون والحزب الديمقراطي الأميركي، بالتمام والكمال. فقد جعل هذا المدحت المحمود جميع قرارات القضاء العالي مجامِلة ومنفذة لتوجيهات المالكي وأعوانه وإخوته في حزب الدعوة وفي الائتلاف الشيعي، ولكن في ثوبٍ من العدل والحياد والاستقلال، وهو الأكثر بعدا عن العدل والحياد والاستقلال من جميع القضاة العراقيين الذين سبقوه، في جميع ما مر على العراق من حكومات وأنظمة وانقلابات، منذ تأسيس الدولة العراقية وإلى زمننا الرديء هذا.
والثانية تتمثل في سؤال بريء، ماذا كان سيحدث لقاضٍ صغير أو كبير لو قرر مناطحة الرئاسة والوقوف ضدها، علنا، في أي دولة من دول العالم الثالث، وفي أي دولة عربية وإسلامية على وجه الخصوص؟
ألم يكن مصيره الخطف أو الاعتقال أو الاغتيال، إن لم يكن أكثر من ذلك، تلفيقَ حجة قضائية يُصدر بناءً عليها قضاءٌ “مستقل” كقضاء مدحت المحمود حكما بالجلد أو الذبح، أو الموت جلوسا على خازوق؟
بهذا وحده تختلف أميركا عن اليمن والعراق ولبنان وسوريا وإيران وأفغانستان، وعن باقي بلاد آه… يا لللي أمان.
كاتب عراقي