إبراهيم الزبيدي يكتب:

صدام حسين ومبادرة الشيخ زايد

فور صدور كتابي "دولة الإذاعة" في فبراير 2002، وكنت مقيما في المملكة العربية السعودية أتولى إدارة إذاعة المعارضة العراقية من جدة، دعتني قناة BBC الناطقة بالإنجليزية للسفر إلى دبي لأكون ضيفها على الهواء حول الكتاب، وحول العراق، وصدام حسين.

سألتني المذيعة، ماذا تتوقع أن يكون تصرف صدام حسين لو أيقن بأن نظامه ساقط لا محالة؟ قلت، لكي أرد عليك بالجواب الصحيح عليَّ أن أسوق لك هذه المقدمة.

إن صدام حسين الذي أعرفه من أيام المراهقة ولد عنيدا وجريئا ومغامرا. ثم ساهمت البيئة والظروف الأسرية والقبلية في تعميق عناده وصقل جرأته، وتأسيس روح المكابرة والتحدي في شخصيته، وجعلها أساس ما ستكونه في شبابه وحتى كهولته، وهي التي تكاتفت مع ذكائه الفطري على إنجاحه في صعود سلم القيادة في حزب البعث العربي الاشتراكي، درجة درجة، وبنفَس عميق وطويل.

والآن إليك جوابي. إن واحدا كصدام حسين، بحجم روح العناد والمشاكسة والثأرية والتحدي المتأصلة فيه، إذا ما تأكد من أن نظامه ساقط لا محالة سوف يختفي ولن تعثروا عليه.

قالت، ولماذا يختفي ولن نعثر عليه؟

قلت، لأنني أعرف معرفةً قاطعة أنه موقن بأن لديه حزبا يعشقه، وسيُقبل على الموت دفاعا عنه عند الشدائد، وبأن وراءه الشعب العراقي بملايينه كلها سيهبّ لنجدته، وأن عربا بعشرات الملايين، والفلسطينيون قبل غيرهم، سوف يتطوعون لحمل السلاح والانخراط معه في مقاتلة القوة التي تريد القضاء عليه وعلى نظامه، أيا تكن، وأيا كان جبروتها، وسيكون هو الشبح الذي يقود الحرب المعاكسة التي يؤمن، بعمق وصلابة، بأنه سيكسبها في النهاية، ويعود بها إلى قواعده سالما ليواصل مسيرته التي اعتقد بأنه مكلّف، ربانيا، بتغيير العالم وهزيمة أميركا واستعادة فلسطين وكل أرض سلبت من العرب في يوم من الأيام.

ثم حدثتها عن إحدى رحلاتنا الصيفية، صدام وابن خاله وصديقه وحبيبه عدنان خيرا، شقيق زوجته ساجدة لاحقا، والفتى الصغير دحام ابن خالته ليلى طلفاح، وأنا لزيارة والدته، صبحة طلفاح وزوجها إبراهيم الحسن، في قرية العوجا التي تقع على بعد أحد عشر كيلومترا جنوب تكريت.

كنا نستقل زورقا صغيرا ونسير به، دون عناء، مع تيار نهر دجلة. وفي الأيام التي نقضيها هناك، كان هو القائد الذي يتولى إطعامنا بالسمك الكثير الكبير الذي يصطاده.

كان، هو وحده، دون معونة من أحد، يجهز القنابل الخاصة بصيد السمك، ثم ينزل في النهر إلى أعلى من صرته، ويشعل فتيلها، ويبقيها في يده ولا يلقيها بسرعة، سعيدا بقلقنا عليه، وصيحاتنا التحذيرية له بإلقائها قبل انفجارها وهي في يده. كان كمن يريد إقناعنا بأنه شجاع ولا يخاف، رغم أن تعليمات المتخصصين باعة مواد هذا النوع من القنابل كانت مشددة بضرورة أن يقوم مشعلها بإلقائها فور إشعال فتيلها وهو على الشاطئ، ودون أن يخوض في النهر، لأن انفجارها وهو في النهر يضر بأعصاب الساقين ضررا كبيرا يجب تجنبه.

ولو تتبعنا مسيرة صعوده النادر المثير في المراتب الحزبية، من أدناها إلى أعلاها في هيئتها القيادية يكتشف أنه، لولا روح العناد والمكابرة والمشاكسة التي فيه، لظل بعثيا مهملا كغيره من الكثيرين الذين قضوا أعمارهم في الحزب ولكن مقُودين لا قائدين.

ثم شاءت الظروف السياسية في عراق الانقلابات العسكرية المتتابعة أن يجد واحدٌ طيب وبسيط ومسالم نفسَه رئيسا للجمهورية، هو الرئيس عبدالرحمن محمد عارف، وأن يكون اثنان من أقرب أبناء قبيلته إليه هما حارساه المؤتمنان على حياته، وعلى حماية نظامه من الطامعين الانقلابيين، قائدُ قوات الحرس الجمهوري، ونائبُ رئيس الاستخبارات العسكرية، فيطمعان، ويقرران الغدرَ به وإزاحتَه وتسلم الرئاسة.

ولأنهما كانا يعرفان أنهما لن ينجحا في الانقلاب عليه إلا إذا تقاسماه مع حزب شعبي يؤمّن لهما الغطاء السياسي اللازم، فقد وثقا بحزب البعث العربي الاشتراكي، بقيادة أحمد حسن البكر ومساعده وزلمته ابن عمه الشاب الشجاع الجريء صدام حسين، فاتفقا معا على تنفيذ الانقلاب، ونجحا فيها دون جهد ولا عناء. ولكنهما لم يكونا على معرفة تحليلية كافية بشطارة الشريك المخادع أحمد حسن البكر، وحنكته الفطرية في اقتناص الفرص السانحة، فقرر أن يتغدى بالشريك قبل أن يتعشّى به. ثم كان ما كان وخلصت السلطة له ولربيبه ولأولاد القبيلة والمخلصين الآخرين من كبار البعثيين.

هنا أصبح صدام حسن هو النائب والرديف الأقرب إلى الرئيس، والأقوى في القيادة، إلى أن تمكن أخيرا من الفتك بابن عمه الرئيس الذي كان يناديه بـ"الأب القائد"، وأجبره على التنحي.

وكما تعرفون، لقد دشن الرئيس صدام عهده في 1979 بحفلة إعدام شهيرة باسم مجزرة قاعة الخلد، فأعدم عددا كبيرا من رفاقه في القيادة والمراكز العليا في الحزب، دون محاكمة. وثم نكتشف متأخرا أن دافعه الوحيد كان اكتشافه أنهم لا يرونه مؤهلا للقيادة، وغير مؤمنين بحقه فيها.

وفي المحصلة النهائية كان من الطبيعي والمؤكد أن ينفرد بالسلطة ويحكم قبضته عليها بالحديد والنار، حتى صار الحلم بسقوطه أقرب إلى المستحيل. ولولا جبروت الجيوش الأميركية والأوروبية والعربية، وتحديدا مشاركة النظام الحاكم الإيراني، لكان سقوط صدام حسين عصيا، وهذا ما جعله يخاطب القاضي الذي حكم عليه بالإعدام قائلا له، والله لولا الأميركان لا أنت ولا أبوك يجيبني لمكان مثل هذا.

وقبل بدء الغزو الأميركي بأيام تطوع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وقدم فرصة النجاة له شخصيا ولأسرته ولكبار أعوانه، بالمبادرة الشهيرة التي عرض عليه فيها استضافته ومن معه في أبوظبي، وتعهد له بحمايته من انتقام الأميركيين والإيرانيين.

طبعا لم يكن أحد يأمن غدر جورج بوش الابن. ولكن هذا المقال معني فقط برفض صدام حسين القاطع والمبدئي لأيّ تنازل أو تراجع أو مغادرة، وأسباب ودوافع ذلك الرفض.

وذلك لأن روح العناد القديمة المتأصلة فيه، كان لا بد لها أن تَظهر بقوة في موقف وجودي من هذا الحجم والوزن والنوع، وأن تجعله لا يرفض المبادرة فقط بل يغضب ويطرد حاملها. فقد كان موقنا، بقوة وصلابة، بأن سقوط نظامه مستحيل، لسببين، الأول صلابة أجهزته الأمنية والحزبية، وقوة جيوشه المتعددة، بالإضافة إلى أنه كان واثقا جدا من أن وراءه الملايين من العراقيين والعرب المحبين المؤمنين بقيادته الحكيمة المستعدين للموت من أجل الدفاع عنه.

ووقع الغزو واختفت جيوشه، وتبعثر حزبه، وهرب عنه أقرب الموالين والمعاونين إليه، وتركوه وحيدا ليضطر إلى الاختباء. ولولا خيانة حارسه اللصيق به، وهو من أبناء عمومته، لظل يقود حروبه التحريرية من مخبئه الأمين.

وهنا أيضا يلعب العناد دوره المنتظر في قبوله صعود المشنقة وهو بكامل عنفوانه وشجاعته الفريدة، في مشهد لم يتكرر، ولن يتكرر في تاريخ السياسة والحروب.

وهكذا، ودون شك، لقد أضاع نفسه، وبعثر أسرته، ونكب الآلاف من أعوانه ومساعديه الذين لم يخسرهم الحزب الذي آمنوا بعدالة فكره، فقط، بل خسرهم الوطن الذي لم يحسن الفصل بين من يستحق ومن لا يستحق كلَّ هذا الظلم والحقد والانتقام.