ماريا هاشم يكتب لـ(اليوم الثامن):
بين التحليل والانحياز.. حين تتحول أوراق الحرب إلى خُطب بلا بصيرة
في منطقة تتقاطع فيها الخرائط بالسلاح، وتُرسم فيها السيادة بالمناورات البحرية والسايبرية، لا يغدو الصراع بين إيران وإسرائيل مجرد مشهد جانبي، بل هو مشهد مركزي ترتد موجاته على الخليج والبحر الأحمر واليمن، ولا سيما الجنوب.
لكن المقلق، أن هذا الصراع – بكل تعقيداته وتشابكاته – لا يُتناول في أحيان كثيرة بمنهجية تحليلية صلبة، بل يُقدَّم في أوراق سياسية وأكاديمية أقرب إلى المنشورات الدعائية منها إلى الدراسات العلمية.
نحن اليوم في حاجة إلى مراجعة شجاعة لخطابنا التحليلي، لا مجاملة فيه ولا انبهار، بل عمق في الطرح ووضوح في الموقف.
أن تكتب في موضوع بحجم "الصراع الإيراني الإسرائيلي" دون منهجية، فذلك يشبه محاولة تفكيك قنبلة بلا أدوات. بعض الأوراق التي تناولت هذا الصراع مؤخرًا – دون الحاجة لذكر أسماء – جاءت خالية من أبجديات البحث الأكاديمي: لا مقدمة تشرح الإشكالية، لا أهداف واضحة، لا فرضيات قابلة للاختبار، ولا حتى فواصل تحليلية منظمة.
وحين تُسرد الوقائع التاريخية جنبًا إلى جنب مع تحليلات غير موثقة، وتُستخدم لغة فضفاضة مثل "قوة تتحدى الإمبريالية" أو "كيان يسعى للهيمنة"، دون أي ربط بمنهج أو مصدر، فإننا لا نكتب ورقة بحثية، بل نخوض في "أدب تعبوي"، لا يليق بباحث جاد، ولا يخدم حتى القضية التي نتصورها عادلة.
بل الأخطر من ذلك، حين تنقلب بعض الأوراق إلى تمجيد مبطن للمشروع الإيراني، وتقديم تدخلاته في اليمن وسوريا ولبنان كـ"رد فعل مبرر"، بينما تغيب أي إشارة نقدية لتلك التدخلات، في تواطؤ معرفي لا يليق بمن يزعم الانحياز لقضايا التحرر.
دعونا نكن صريحين: لا إيران تمثل "جبهة مقاومة بريئة"، ولا إسرائيل مجرد "معتدي أعمى". فالتحليل الحقيقي لا يُصنّف اللاعبين في رقعة الشطرنج السياسي إلى "أبطال وشريرين"، بل يتعامل مع المصالح، ونقاط القوة، والتحولات الجيوسياسية، كما هي، لا كما نتمنى.
في بعض الأوراق، قُدّمت إيران كأنها "القوة المظلومة" التي تحاول فقط إثبات وجودها في وجه حصار دولي، بينما لا تُذكر أذرعها العسكرية في لبنان أو العراق أو اليمن إلا عرضًا، كأنها أعمال إنسانية. في المقابل، يُحمَّل الطرف الإسرائيلي كامل المسؤولية عن التصعيد النووي، من دون أدنى محاولة لفهم خلفياته الأمنية، أو حتى الاعتراف – من باب التحليل لا التبرير – بمخاوفه من التهديد الإيراني الصريح بمحو تل أبيب.
هذا الميل غير الواعي إلى خطاب واحد، يحوّل الأوراق البحثية إلى أدوات سياسية، ويفرغها من قيمتها الأكاديمية.
وسط هذا الصراع المحتدم، يغيب الجنوب – كعادته – من النقاش، إلا حين يُستدعى كـ"ساحة عبور" أو "موقع استراتيجي". ولكن في واحدة من الأوراق، طُرحت إشارات مهمة تستحق البناء عليها: الجنوب ليس مجرد ممر، بل يجب أن يكون قوة ردع حقيقية في معادلة أمن البحر الأحمر وخليج عدن.
هذا لن يتحقق ما لم نواجه الحقيقة الصعبة: قواتنا المسلحة الجنوبية لا تزال في حالة من التعدد والانقسام، بلا قيادة موحدة، ولا عقيدة قتالية جامعة، ولا استراتيجية تدريب وتسليح متقدمة.
المطلوب اليوم ليس فقط رفع الجاهزية العسكرية، بل إعادة هيكلة شاملة للقوات المسلحة، تبدأ بدمج التشكيلات تحت قيادة مركزية موثوقة، وتنتهي بإنشاء جيش احترافي، مزود بالخبرة والسلاح النوعي، وقادر على حماية الأرض والشعب والسيادة.
كما أن من الضروري، ضمن هذا السياق، أن نبدأ بتحرك سياسي مدروس لإقناع المجتمع الدولي بأن الجنوب لم يعد مجرد "منطقة صراع"، بل طرف فاعل وشريك في حماية أمن الممرات البحرية، لا سيما باب المندب، الذي بات أحد أخطر نقاط التماس في صراع الكبار.
إن ما يجب فعله اليوم وليس غدا، يتمثل في تأسيس لجنة أكاديمية جنوبية تُشرف على مراجعة أي أوراق أو دراسات تُطرح في المؤتمرات والندوات، وتضمن التزامها بالمنهج العلمي والتوازن في الطرح.
وكذا التعاون مع مراكز أبحاث عربية ودولية لضمان أن تجد أوراق الباحثين الجنوبيين طريقها للنشر في منصات علمية محترمة، بدلاً من الاكتفاء بعرضها في جلسات مغلقة.
وإطلاق برنامج لإعداد باحثين استراتيجيين جنوبيين، يتلقون تدريبات على تحليل الصراعات الإقليمية، وربطها بالواقع المحلي، بلغة منهجية دقيقة وأسلوب عقلاني بعيد عن الدعاية.
وإدراج الجنوب كعامل استراتيجي في أي نقاش حول الأمن الإقليمي، من خلال تنظيم فعاليات ومحاضرات خاصة، تُبرز رؤيتنا في بناء جيش جنوبي موحد وشراكة فاعلة في مكافحة الإرهاب وحماية الملاحة.
نحن لا نكتب لمجرد الكتابة، ولا نحلل لنُرضي طرفًا على حساب الحقيقة. في زمن الحروب المركبة، والمصالح المتداخلة، لم تعد الساحة تقبل بالتحليلات السطحية، أو الخطابات العاطفية. الجنوب بحاجة إلى خطاب معرفي جديد، يبدأ من الفهم العميق للتوازنات، ولا يخشى تسمية الأشياء بأسمائها.
إننا لا نبحث عن عدو نُصفّق لانتقاده، ولا عن حليف نُبرر له كل شيء، بل نبحث عن مكان نليق به، ونبنيه بأيدينا، وعقولنا، وجيشنا.
التحليل، يا سادة، هو أول أدوات السيادة.