أزراج عمر يكتب:
الجزائر والأقدام السوداء.. جدل الموروث الاستعماري
في زيارته الرسمية التي قام بها مؤخرا الوزير الأول الجزائري، أحمد أويحيى، لفرنسا طفت إلى السطح مجددا قضية “الأقدام السوداء”، أو قضية المعمرين الفرنسيين والأوروبيين ويهود الشتات الذين استوطنوا الجزائر قبل وإثر السنوات المبكرة لاحتلال فرنسا للجزائر. علما وأن هؤلاء قد غادروا فور حصول هذه الأخيرة على الاستقلال.
لقد اتخذت تصريحات الوزير الأول الجزائري التي دعا فيها الأقدام السوداء إلى المشاركة في دعم الاقتصاد الجزائري أبعادا دراماتيكية، سواء على المستوى الرسمي أو على مستوى الأحزاب المعارضة ووسائل الإعلام في كلا البلدين. وفي هذا الخصوص ينبغي التوضيح أن عددا من أقطاب المعارضة الجزائرية قد استهجنوا تصريح الوزير الأول الجزائري واعتبروه بمثابة صكَ غفران مجاني يرمي من ورائه إلى طي صفحة الماضي الاستعماري بجرة قلم، والسماح للمعمرين باستعادة ممتلكاتهم ومواقعهم الاجتماعية التي فقدوها في الفضاء الجزائري، مع أن عددا من هؤلاء تورطوا في ممارسة القتل والإرهاب والاستيلاء على ممتلكات الجزائريين بالقوة، ثم أسسوا بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية تنظيما في فرنسا دعوا، ولا يزالون يدعون، من خلاله إلى إنشاء دولة لهم في الجزائر.
وفي الواقع فإن ظاهرة “الأقدام السوداء” تستحق التوضيح من جهة المفهوم والمصطلح الفضفاض، ويلاحظ أيضا أنها مرتبطة عضويا بملفات متشابكة أخرى ما فتئت تعكّر وتسمم العلاقات الجزائرية الفرنسية على مدى سنوات طويلة جرّاء عدم إيجاد الحلول الجدية لها منذ انتهاء الاحتلال الفرنسي للجزائر إلى يومنا هذا.
ومن بين هذه الملفات المعلّقة ملف حقوق المهاجرين الجزائريين المقيمين بفرنسا بصفة نهائية، وملف أرشيف مرحلة الاستعمار الفرنسي من تاريخ الاستعمار عام 1830 إلى غاية تاريخ الاستقلال عام 1962، وكذلك ملف الخونة الجزائريين الذين رفعوا السلاح جنبا إلى جنب العساكر الفرنسيين، وملف المنفيين الجزائريين إلى الجزر التابعة للإمبراطورية الفرنسية في العديد من أصقاع المعمورة، وكذلك ملف التعويض عن التجارب النووية الوحشية الفرنسية في الصحراء الجزائرية.
وبخصوص مصطلح “الأقدام السوداء” فإن أصحابه لا يفصلون بين المعمرين الاستعماريين الفرنسيين الذين استوطنوا الجزائر بعد احتلال فرنسا لها في عام 1830، وبين الجاليات الأخرى التي استوطنت الجزائر سواء قبل الاحتلال الفرنسي بقرون مثل اليهود الذين فرّوا من الأندلس إلى الجزائر والمغرب وتونس وغيرها من الجغرافيات وذلك بعد سقوط الدولة الإسلامية، أو قبل هذا الاحتلال بقليل، أو أثناءه مثل الكورسيكيين والمالطيين والإسبان والإيطاليين، وبعض المجموعات البشرية المهاجرة من أوروبا الشرقية.
مشهد السياسة الخارجية الجزائرية ليس موحدا، بل هو عبارة عن شبكة من المواقف المتعددة لحد التناقض داخل المؤسسات السياسية
وفي الحقيقة فإن مؤرخا فرنسيا شهيرا بحجم فرنان بروديل قد بيَّن في كتابه “البحر المتوسط في عهد فيليب الثاني” أن أفرادا آخرين قد استوطنوا الجزائر بصفة نهائية جراء تعرضهم للأسر من طرف القراصنة الجزائريين والعثمانيين وهم من البريطانيين وقدر أعدادهم بالآلاف. وتفيد الحقائق التاريخية أيضا أن المعمّرين الأجانب بالجزائر في العهد الفرنسي لم ينخرطوا كلهم ضمن الجيش الفرنسي ولم يرتكبوا كلهم المجازر، ولم يستولوا كلهم على أراضي الجزائريين بالقوة وفي إطار الإجراءات الاستعمارية التعسفية، بل إن هناك منهم من وقف إلى جانب حركة التحرر الوطني.
وبناء على هذا فإنه لا ينبغي وضع كل المعمرين في سلة ما يدعى بالأقدام السوداء. وفي هذا الشأن هناك مؤرخون يرون أن تسمية “الأقدام السوداء لا ترجع إلى لون أحذية الجنود الفرنسيين الذين دخلوا الجزائر للمرة الأولى عام 1830، والتي كانت سوداء أو إلى المزارعين من المستوطنين الذين كانوا يعصرون العنب بأقدام حافية لإنتاج العصير والخمور” كما يذهب إلى ذلك أحد المعلقين السياسيين، بل إن الأقدام السوداء هم جماعات فرنسية قيل إنها ارتكبت حماقات مخلة بالأخلاق وبسببها عاقبتهم السلطات الفرنسية بالمشي حفاة لأيام كثيرة انطلاقا من عدة مناطق فرنسية إلى مرسيليا، وجرّاء ذلك اتسخت أقدامهم حتى صارت سوداء بفعل تراكم الوحل والطين عليها، ومن ثم قذف بهم في السفن ونفتهم السلطات الفرنسية إلى مستعمرتها الجزائر.
وهكذا ينبغي على الراصد السياسي أن يتساءل: لماذا تثير قضية الأقدام السوداء كل هذا الجدل الخلافي الحاد جدا في هذه الأيام في الجزائر وفي فرنسا معا؟
يبدو واضحا أن فرنسا الرسمية وكذا التيارات اليمينية المتطرفة تستخدم هذه القضية وغيرها من القضايا للتحكم في مستعمرتها السابقة ومنعها من فكّ الارتباط معها، أما النظام الجزائري فهو منقسم على نفسه بخصوص هذا الملف الشائك وخاصة بشأن موروث اتفاقيات إيفيان الفرنسية – الجزائرية التي أعطت حق البقاء للأقدام السوداء ولعائلاتهم في الجزائر، وكذا حق الاحتفاظ بالأملاك التي كانت في حوزتهم قبل حصول الجزائر على الاستقلال.
ومن الضروري أن ندرك، مثلا، أن تباينات وجهات النظر كل من وزارة المجاهدين الجزائريين والوزير الأول أحمد أويحيى، فضلا عن شريحة أخرى من السياسيين الحزبيين الجزائريين المنتمين إلى أحزاب الموالاة وإلى أحزاب المعارضة، تبرز بوضوح أن مشهد السياسة لخارجية الجزائرية ليس موحدا، بل هو عبارة عن شبكة من المواقف المتعددة لحد التناقض الصارخ داخل المؤسسات السياسية التي تشرف على إدارتها الأجهزة الرسمية للدولة الجزائرية.
ويعني هذا أن هناك عناصر داخل النظام الرسمي تتمسك بالشرعية الثورية وتناهض تطبيع العلاقات مع فرنسا قبل تصفية ما يدعى بملف أرشيف الاستعمار، وهناك جهات رسمية أخرى تتحرك غالبا وراء الستار وهدفها هو تحقيق مشاريع التطبيع مع الدولة الفرنسية وفي المقدمة مشروع التخلي عن ما تدعوه بآلية النكوص إلى الماضي، واستبدالها بآليات تضع ذاكرة مرحلة الاستعمار في الثلاجة، مع التركيز بشكل أساسي على تطوير العلاقات الثنائية الراهنة في مختلف مجالات التنمية المادية والثقافية.
وفي الواقع فإن التيار الذي يريد الحوار مع فرنسا ما بعد الكولونيالية، وتحديدا مع بقايا موروث الحقبة الاستعمارية ومنه ظاهرة الأقدام السوداء، يستند إلى حجة تبدو ظاهريا أخلاقية وتتلخص في تقديرهم في تجنيب الجزائر إلغاء بنود اتفاقيات إيفيان، ذات الصلة بالأقدام السوداء والموقعة بالتراضي بين الطرفين رسميا ومباشرة في لوزان بسويسرا قبل استقلال الجزائر في عام 1962، من طرف واحد.
وفضلا عن هذا فإن هذا التيار يبرر موقفه بالقول بأن التنكر الجزائري لهذه الاتفاقيات سيفتح المجال للحكومة الفرنسية أن تضر بمصالح الجزائر في الكثير من الفضاءات الغربية وحيث يمتد النفوذ الفرنسي. كأن تؤثر سلبيا مثلا، على علاقات الجزائر بالاتحاد الأوروبي سياسيا واقتصاديا، وفضلا عن ذلك يلوح هذا التيار بأنه يمكن للدولة الفرنسية أن تلجأ إلى استخدام البنود القانونية التي تتضمنها اتفاقيات إيفيان لمقاضاة الجزائر في المحاكم الدولية.
وفي إطار هذا النوع من التبريرات يرى تيار آخر في الساحة السياسية الجزائرية أنه يجب على النظام الجزائري رفض إعادة أملاك الأقدام السوداء إلى أصحابها، والاكتفاء بصرف التعويضات بدلا من ذلك، والهدف هو أن يظهر أمام الرأي العام كحارس لتراث حركة التحرر الوطني وبذلك يضمن الهيمنة على الحكم دائما.
نقلا عن العرب