محمد قواص يكتب:
هل يفوز أردوغان وتسقط الأردوغانية؟
عام 1995 فاز جاك شيراك بالرئاسة في فرنسا. كان الرجل الذي فاز بالاقتراع الشعبي يستند على أغلبية بسيطة لحزبه، "التجمع من أجل الجمهورية"، داخل البرلمان فأراد الاستفادة من دفق فوزه لتوسيع تلك الأغلبية بما يتيح له حكماً مريحا. حلّ البرلمان عام 1997 ودعا إلى انتخابات تشريعية مبكرة صفعته بمفاجأة أليمة. فاز الخصوم الاشتراكيون بالأغلبية فارضين على الرئيس نظام "التعايش" الشهير. كان شيراك سياسياً حذقاً لكن غرورا وقصر نظر واكب مناورته بحل البرلمان فدفع ثمن ذلك غالياً.
لا يبتعد مثال شيراك العتيق عن مغامرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذه الأيام. والفرق أن رجل فرنسا آنذاك أراد الاستفادة من وهج انتصاره ليكمله برلمانياً، فيما أن رجل تركيا يستنتج تآكل شعبيته فيهرول إلى الانتخابات المبكرة لوقف الخسائر قبل أن تزداد مستقبلاً. وإذا ما خسر شيراك أغلبيته داخل الجمعية العمومية قبل عقدين فإن أردوغان قد يخسر رهانه ويفقد أغلبية حزبه داخل مجلس الأمة الكبير في انتخابات الأحد المقبل.
ينافس أردوغان على كرسي الرئاسة مجموعة من الأسماء متعددة الامزجة متباينة الأجندات. محرم إنجيه، مرشح حزب الشعب الجمهوري، وميرال أكشنار، مرشحة حزب الخير، وصلاح الدين ديميرتاش، مرشح حزب الشعوب الديمقراطي، وتيميل كرم الله أوغلو، مرشح حزب السعادة، ودوجو برينتشيك، مرشح حزب الوطن.
وما تكشفه استطلاعات الرأي لا يهدد حتى الآن فوز أردوغان بالرئاسة، لكن أمر هذه الاستطلاعات لا يؤمن له منذ أن فشلت تلك في إسرائيل والولايات المتحدة في توقع فوز دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو كما تلك في بريطانيا في توقع فشل خيار الخروج من الاتحاد الأوروبي. لكن الثابت أن عجز أردوغان عن تجاوز عتبة الـ 51 بالمئة في الجولة الأولى بات محتملاً ما سيدفعه للنزال في الدورة الثانية ضد مرشح واحد، محرم إنجيه، قد تجتمع حوله كل تيارات المعارضة.
والمسألة لا تتعلق فقط بفوز أردوغان من عدمه بل بشروط هذا الفوز ونسبته من جهة، كما بعدد المواقع التي سيحققها حزب العدالة والتنمية داخل البرلمان الجديد. فإذا ما جهد رجل تركيا القوي للدفع بتعديلات دستورية تجعل من رئاسته محصّنة بصلاحيات سلطانية، فإن سقوط الأغلبية البرلمانية لحزبه أو تضعضعها سيفقد السلطان أحلاماً وطموحات كما فقد شيراك قبل ذلك أحلاما وطموحات.
على أن نتائج هذه الانتخابات ستمثل مفترقاً مهماً للأتراك وتركيا كما لمستقبل البلد في الدائرتين الإقليمية والدولية. يعوّل أردوغان على تمديد الحالة التي ظهرت في البلاد منذ عام 2002 والتي حملت إلى الحكم إسلاموية مموهة بخطاب مدني حداثي مخصب بنكهة "البزنس". فيما قد تدشن هذه الانتخابات مرحلة جديدة تمهد لأفول الأردوغانية وتراجع الإسلام السياسي كظاهرة مؤثرة في الإقليم تتأثر بتراجع الحالات الإخوانية والجهادية وبضمور التيارات الإسلاموية في المنطقة.
يتأمل أردوغان بقلق صعود شعبية محرم إينجه. يصفه المعلقون بأنه بات منافساً قوياً لأردوغان. الرجل مرشح حزب أتاتورك القديم، حزب الشعب الجمهوري، بما يمثله هذا الترشح من صدام دائم لم ينته بين الأتاتوركية والأردوغانية في تركيا. إينجه استاذ الفيزياء الذي أظهر للأتراك مواهب يمتلك مثلها أردوغان: الخطابة.
فاز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات منذ 15 عاماً مستنداً على موهبة الخطابة التي يجيدها زعيمه. ينهل إينجه هذه الأيام من نفس البضاعة فينفخ بأبجدية منتقدة لأردوغان و"العدالة" مدافعاً عن تركيا الأتاتوركية مهاجماً سلوك حكومات أردوغان المتتالية في ملفات الاقتصاد والتنمية والتي أوصلت تركيا إلى إحدى أكبر أزماتها الاقتصادية والمالية في العقود الأخيرة.
أمام إينجه وفق استطلاعات الرأي موعد كبير مع أردوغان في الدورة الثانية للانتخابات. إذا ما صدقت هذه الاستطلاعات فإن أردغان لن يحقق أكثر من 47 بالمئة من الأصوات ما يحرمه من الفوز من الدورة الأولى. نفس الاستطلاعات ليست متشائمة حتى الآن بشأن إمكانية خسارته للانتخابات في وقت لا تستبعد فيه من حصول مفاجأة إذا ما صبت المعارضة والمحبطون في صفوف الكتلة الناخبة لحزب العدالة والتنمية أصواتهم في حساب إينجه.
غير أن ما هو محتمل في الترجيحات الرئاسية يبدو أكثر يقيناً بما يتعلق بتلك التشريعية. ووفق آخر الاستطلاعات فإن تحالف العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية لن يحقق الأغلبية في البرلمان، إذ سيحصل على 48.7 بالمئة من الأصوات وهي نفس النسبة التي حصل عليها في الاستطلاع السابق.
قد يكون من المبكر استشراف وضع تركيا في حال خسارة أردوغان المفاجئة أو في حال فوزه مع خسارة حزبه للأغلبية. وقد يكون من العبث بناء تحليلات تستند على استطلاعات رأي قد تنقلب من الآن وحتى موعد الانتخابات يوم الأحد المقبل. غير أن ما يهم الأتراك من هذه الانتخابات تهتم له عواصم القرار الكبرى، ذلك أنه على أساس نتائجها قد يعاد رسم خرائط طريق وتعديل استراتيجيات وتصويب تكتيكات داخل ميادين المنطقة.
منحت واشنطن أردوغان ورقة انتخابية مهمة. تم لوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو التفاهم مع نظيره مايك بومبيو حول وضع مدينة منبج. اعتبر أردوغان الأمر انتصاراً لخياراته في سوريا وبالتالي مناسبة استثنائية لتسويق الأمر في حملاته الانتخابية. غير أن أي مراقب للانتخابات التركية سيلحظ أن مزاج الناخب بات مرتبطاً بمؤشرات الاقتصاد المحلي التي رفعت العدالة والتنمية يوماً إلى الحكم والتي قد تكون سببا لسقوط الأردوغانية ودوائرها المحيطة. وعلى ذلك فإن الورقة الأميركية التي رفعت من حجم الحمم التركية ضد قنديل في العراق قد لا تعدو كونها هدية مسمومة لا تجرّ ماء إلى طواحين أردوغان وصحبه.
لا تحب أوروبا أردوغان وتجاهر عواصمها في ذلك. ولا تثق موسكو برجل تركيا القوي وليست قلقة من احتمال تضعضع سطوته. يسعى الرئيس التركي للتخفيف من خسائره الإقليمية من خلال الاقتراب من طهران وتأجيل الصدام معها. تعلن انقرة أن قاعدة أنجرليك مقفلة أمام أي استهداف عسكري أميركي لإيران. ليس في خطط واشنطن الحرب ضد إيران ولا استخدام القاعدة التركية الشهيرة. ينهل أردوغان من مياه غير موجودة للإيحاء بأنه مركز الثقل في ما يتعلق بمستقبل إيران كما سوريا كما شمال العراق.
قد تأتي الانتخابات التركية امتدادا لمناخ عام ينقلب على الأحزاب الدينية في المنطقة. تسقط تلك الأحزاب الأسماء الدينية عنها في العراق ثم تهزها الانتخابات الأخيرة. فقدت تلك الأحزاب سطوتها في تونس ومصر والمغرب وليبيا، ولم يعد "الاسلام هو الحل" شعاراً يروج لكي تحافظ الأردوغانية على شرعية صعودها.
قد يكون هنا مركز الثقل في انتخابات 24 يونيو الحالي في تركيا، ذلك أن تركيا قد تقلب صفحة حتى لو انتخب أردوغان سلطاناً على بلاده.