سمير عادل يكتب لـ(اليوم الثامن):

الاغتيال السياسي للنساء، استراتيجية جهنمية للمنظومة الحاكمة في العراق

إن حياة النساء ثمينة، وصوتهن واعتراضهن ونضالهن يشكل مصدر قلق حقيقي للطبقة الحاكمة في العراق. فالاغتيال السياسي للنساء ليس إلا استراتيجية جهنمية لتحييد نصف المجتمع من أجل ترويض الجماهير التوّاقة للحرية والمساواة، والثائرة على الفساد والظلم بكل أشكاله.

اغتيال الدكتورة بان زياد في مدينة البصرة، وتصوير قضيتها على أنها حادثة "انتحار"، ثم ختم الملف من قِبل مجلس القضاء الأعلى وإغلاقه بدمٍ بارد كما اغتيلت بدمٍ بارد، يذكّرنا بأن العراق إحدى "جمهوريات الموز"، ويشبه إلى حدّ بعيد عدد من دول أميركا اللاتينية التي تهيمن عليها عصابات المخدرات عبر مسؤولين حكوميين فاسدين.

والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يتدخّل مجلس القضاء الأعلى في"قضية انتحار" عادية ــ حسب وصفه للجريمة ــ ويغلق الملف، بينما تقع عشرات حوادث الانتحار دون أن ينبس ببنت شفة؟ لماذا يحشر مجلس القضاء أنفه في قضية مثل قضية اغتيال الدكتورة بان زياد؟ أم أنّه تحوّل إلى “سيارة إسعاف” كما كان يُقال عن التيار الصدري الذي كان يتدخل في كل حركة احتجاجية لإنقاذ المنظومة الحكومية من وحل الفساد وغضب الجماهير؟

المعضلة الحقيقية في قضية اغتيال بان زياد لا تكمن في تورّط محافظ البصرة أسعد العيداني وإدارته للمدينة ــ كما يُشاع ــ ولا في الجهة التي نفّذت عملية الاغتيال، ولا حتى في موقف أسرتها التي أيّدت رواية انتحار ابنتها وسط أحاديث عن ضغوط أو مبالغ مالية. الكارثة تكمن في منظومة القضاء نفسها التي باتت مصدر رعب للمجتمع العراقي. فهي من تقرر مَن يكون الرابح في الانتخابات، وهي من تُشكّل الحكومات، كما حدث في إقصاء اياد علاوي في انتخابات عام ٢٠١٠ والتيار الصدري رغم حصوله على الأغلبية البرلمانية بعد انتخابات عام 2021 عبر اختلاق “الثلث المعطّل”. وهي من أقصت محمد الحلبوسي من رئاسة البرلمان والحياة السياسية عندما تراجع عن الارتهان للنفوذ الإيراني، ثم أعادته بعد أكثر من عام حين تغيّرت البوصلة نحو تركيا، وكأن شيئًا لم يكن.

وهي كذلك من أبطلت قضية خور عبدالله عام 2023 بضغط إيراني، رغم مصادقة البرلمان والرئاسات الثلاث عليها عام 2014، ثم أعادتها إلى نصابها بعد تغيّر اتجاه الرياح السياسية وتراجع ما سُمّي بالمحور القومي الإيراني “المقاومة والممانعة”. وفي قضية اغتيال هشام الهاشمي، خرج القاتل "بقدرة قادر" رغم اعترافه ووجود أدلة دامغة بعد أن حُكم عليه لفترة وجيزة. أما في “سرقة القرن” التي تورّط فيها المدعو نور زهير، فقد كشفت صحيفة الغارديان البريطانية أنّ وراءه شخصية تقود ميليشيا معروفة، وسمّتها بالاسم: هادي العامري. ومع ذلك، أُطلِق سراح زهير وسُفّر إلى فندق خمس نجوم خارج العراق.

وقبل ذلك، جرى الحكم على شخصيات سياسية بارزة مثل مشعان الجبوري (نائب في البرلمان)، ورافع العيساوي (وزير المالية في حكومة المالكي الثانية)، وطارق الهاشمي (نائب رئيس الجمهورية السابق)، وغيرهم بتهمة الإرهاب، لكن بعد سنوات بُرّئ كل من قدّم الطاعة السياسية بعد ان قدم أوراق اعتماده في طهران. والحبل على الجرّار كما يقولون.

لا شك أنّ هناك تناغمًا بين الفاعلين في قضية اغتيال الدكتورة بان زياد، بين الحكومة المحلية في البصرة ومجلس القضاء الأعلى في بغداد. وفي الوقت نفسه، يكشف المشهد السياسي تناقضًا صارخًا: حكومة السوداني شكّلت لجنة تحقيقية، كما شكل البرلمان لجنة خماسية ، بعد أن تحولت القضية إلى قضية رأي عام، في حين سارع مجلس القضاء الأعلى إلى غلق الملف. هذا التناقض يعكس أنّ القرار بيد القضاء، الذي بدا وكأنه الحاكم والناهي في العراق، فجاء إغلاق الملف لتفويت الفرصة على الحكومة والبرلمان في استثماره سياسيًا لأغراض انتخابية من جهة، ومنع تحوّل القضية إلى حركة مشابهة لحركة مهسا أميني التي هزّت أركان النظام الإسلامي في إيران من جهة أخرى.

وليس اغتيال بان زياد الأول من نوعه، وخصوصًا في مدينة البصرة. فقد سبقته سلسلة اغتيالات لنساء مثل سارة طالب، وريهام يعقوب، وسارة العبودي، وجميعهن من البصرة. إضافةً إلى ذلك، شهدت مدن عراقية أخرى اغتيالات سياسية مشابهة. لكن اللافت أن الاغتيال السياسي المنظم يجري في البصرة بوتيرة متسارعة. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل شنّ محافظ البصرة قبل ذلك حملات قضائية واعتقالات طالت العديد من الناشطين والفاعلين في انتفاضة تشرين 2019 والحركات الاحتجاجية ضد الفساد والبطالة والنهب.

وعليه، يجب النظر إلى قضية اغتيال النساء ضمن منظور أوسع. فالتنافس على ثروات البصرة ــ التي يشكّل نفطها أكثر من 90% من دخل العراق ــ يضعها في قلب صراع اقتصادي وسياسي بين المحافظ وبرنامجه من جهة، والأحزاب والميليشيات من جهة أخرى، حيث يسعى كل طرف إلى الاستحواذ على أكبر حصة من موارد النفط، وريع الموانئ، والمشاريع الاقتصادية. لذلك عمد المحافظ أسعد العيداني إلى قمع الأصوات المعارضة بحجة الحفاظ على الاستقرار السياسي والأمني لطمأنة المستثمرين. وإيران بدورها، بوصفها الجارة الحدودية، لها أهدافها الخاصة، وتشاركها الميليشيات التابعة لها التي تورّطت في اغتيال سارة طالب وغيرها. باختصار، فإن الحكومة المحلية بقيادة العيداني تسعى لترسيخ سلطتها وتوسيع نفوذها عبر الاستحواذ على الاستثمارات وعوائد النفط والمشاريع الاقتصادية.

وعلى الصعيد الاستراتيجي، فإنّ جسارة النساء و جرأتهن في مواجهة الفساد والنهب لا تصب في مصلحة النظام الإيراني، ولا في مصلحة ميليشياته النافذة في البصرة، رغم تعارضها أحيانًا مع الحكومة المحلية. لكن عند الأزمات نجد الجميع في مركب واحد، وهو ما يفسر العشق الممنوع بين النفوذ الإيراني في البصرة والحكومة المحلية.

من هنا يمكن القول إن الاغتيال السياسي المنظم للنساء هو أداة استراتيجية تتنافس عليها الأطراف المتصارعة، سواء الأحزاب الموالية لإيران أو الميليشيات المرتبطة بالحكومة المحلية في البصرة، لإدامة الفساد والجريمة المنظمة وتوسيع السيطرة على الاستثمارات الاقتصادية والنفطية.

إن فبركة “الانتحار” كغطاء لجريمة اغتيال تكشف حجم الارتباك الذي أصاب المنظومة الحاكمة في العراق. ولم يكن قرار مجلس القضاء الأعلى سوى محاولة لطمس الحقيقة ووضعها في غياهب النسيان، كما حدث في قضايا الهاشمي ونور زهير، مع الرهان على عامل محو الذاكرة الجمعية تحت ضغط الأوضاع الاقتصادية والخدمية المزرية التي ترزح تحتها غالبية الشعب العراقي.

إن الصوت النسائي هو أكثر ما يرعب الطبقة الحاكمة. فلم بجفّ بعد حبر قرار غلق ملف الدكتورة بان، حتى صدر قرار آخر بمنع القنوات العراقية من إجراء حوارات مع الناشطة الحقوقية زينب جواد، ثم أعقبه إصدار مذكرة اعتقال بحقها. ولحسن الحظ أنها لم تكن موجودة في “العراق الديمقراطي”، وإلا لكان ملفها أُغلق بالحبر الأحمر بعد تصفيتها، كما حدث مع الدكتورة بان.

ورغم كل محاولات السلطة الحاكمة في العراق ــ بأذرعها القضائية والتنفيذية والتشريعية ــ لغسل دماغ المجتمع بالخرافات، وتشريع القوانين لفرض الإذعان والخنوع، وإطلاق يد المافيات والميليشيات في تصفية المعارضين، فإنها تبدو مهتزّة ومرتبكة أمام حركة الدكتورة بان التي ما زالت جمرة تتقد. وقرار غلق ملفها لم يكن سوى انعكاس للخوف والرعب الذي يسري في أوصال المنظومة الحاكمة.