حسن محمودي يكتب لـ(اليوم الثامن):
إيران بين مأزق الملف النووي وتفكك الداخل وخسارة الإقليم
في خريف عام 2025، تبدو إيران وكأنها تقف عند مفترق حاسم من تاريخها السياسي الحديث. فالجمهورية الإسلامية التي طالما قدّمت نفسها كقوة إقليمية لا تُقهر، تواجه اليوم مزيجاً متفجّراً من الأزمات: مأزق نووي معقّد يهدّد بانهيار كامل لمسار الاتفاق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتصدّع متنامٍ في صفوف المحافظين الذين طالما شكّلوا العمود الفقري للنظام، وانحسار إقليمي واضح بعد فشل رهاناتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وبينما كانت طهران تراهن على “طوفان الأقصى” ليكون نقطة تحوّل تعيد تثبيت نفوذها في المنطقة، تحوّل الطوفان إلى ارتداد سياسي وأمني كشف هشاشة الداخل وأوهام “محور المقاومة”.
تُجمع الصحف الإيرانية الرسمية وشبه الرسمية على أن إيران فقدت السيطرة على ملفها النووي سياسيًا ودبلوماسيًا. فبعد انهيار «اتفاق القاهرة» الذي كان قد مهّد لعودة جزئية للتعاون بين طهران والوكالة الدولية، عاد الخطاب الرسمي إلى نغمة “الاستقلال النووي”، وهي صيغة تحمل في طيّاتها عودة ضمنية إلى ما قبل عام 2015، أي ما قبل توقيع خطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA).
صحيفة فرهيختكان المقرّبة من الحرس الثوري تحدثت بوضوح عن فشل المسار الدبلوماسي، مؤكدة أن “إيران لم تعد ملزمة بتوصيات الوكالة” وأنّ تقاريرها حول “اليورانيوم المفقود” و“أنشطة نطنز” ما هي إلا أدوات ضغط تستخدمها واشنطن وتل أبيب لتقويض قدرات البلاد الدفاعية. وفي السياق نفسه، نقلت صحيفة كيهان عن مصادر في مجلس الأمن القومي قولها إنّ “الوقت قد حان لتبنّي مسار الردع الكامل” – وهي إشارة مبطّنة إلى إمكانية استئناف تخصيب اليورانيوم بمستويات تتجاوز 60%، ما يعني عمليًا الاقتراب أكثر من العتبة النووية.
في المقابل، عبّرت صحيفة شرق الإصلاحية عن قلق متزايد من مغبّة الانسحاب الفعلي من الالتزامات السابقة، محذّرة من تفعيل “آلية الزناد” التي تعني إعادة فرض العقوبات الأممية تلقائيًا. وكتبت الصحيفة في افتتاحيتها: “الذين يتحدثون عن الصمود لا يدركون أن عودة العقوبات ستجعل الاقتصاد الإيراني رهينة السوق السوداء والعقود الرمادية”.
بهذا المعنى، عادت إيران إلى نقطة البداية؛ لا اتفاق فعلي مع الغرب، ولا مظلة روسية أو صينية قادرة على حمايتها من الانهيار الاقتصادي، ولا قدرة داخلية على تحمّل تبعات العزلة المتجددة. فبعدما كانت طهران تراهن على “تعدد الأقطاب” لموازنة الضغوط الأمريكية، وجدت نفسها اليوم بين مطرقة الغرب وسندان الحذر الآسيوي، إذ إنّ موسكو وبكين – رغم تحالفهما السياسي معها – لا ترغبان في خسارة علاقاتهما الاقتصادية مع الغرب بسبب ملف إيران.
لم يعد الصراع داخل النظام الإيراني مجرّد تنافس سياسي على السلطة، بل تحوّل إلى معركة هوية بين جيلين من المحافظين: جيل الثورة الذي رافق الخميني وخامنئي لعقود، وجيل الحرس الثوري الجديد الذي وُلد من رحم الحروب الإقليمية ويتعامل مع الدولة بمنطق أمني خالص.
شرارة الأزمة الأخيرة جاءت مع تصريحات محمدرضا باهنر، أحد رموز التيار التقليدي، حين انتقد تشدّد السلطات في فرض الحجاب الإجباري، معتبرًا أن "الإكراه يولّد الكراهية". هذا التصريح أثار عاصفة داخل البرلمان والحرس الثوري، ودفعت صحيفة خراسان إلى اتهام باهنر بـ"الانحراف عن مبادئ الثورة"، فيما اعتبرته آرمان امروز مؤشراً على تفكك غير مسبوق في صفوف المحافظين.
وراء هذه المعركة الرمزية حول الحجاب، تكمن معركة أعمق حول هوية النظام نفسه. فالمحافظون الجدد، المدعومون من الأجهزة الأمنية، يريدون نظامًا مغلقًا يقدّس الطاعة ويستمد شرعيته من الخوف والرقابة. أما المحافظون التقليديون، فيخشون أن يؤدي هذا التشدّد إلى تفجير الشارع وإسقاط ما تبقّى من توازنات. ومع غياب التيار الإصلاحي عن المشهد السياسي بعد الانتخابات الأخيرة، بات الصراع داخل “البيت المحافظ” هو المحرك الوحيد للحياة السياسية في إيران، ما يجعل البلاد أقرب إلى مرحلة “أكل الذات الثورية”.
اللافت أن هذا التفكك لم يعد محصورًا في النخبة السياسية، بل امتد إلى قواعد النظام الاجتماعية. فجيل الشباب الإيراني الذي لم يعش الثورة، يعبّر اليوم عن رفض صريح للخطاب العقائدي عبر الفن والموسيقى ووسائل التواصل. ومع كل حملة قمع، تتضاعف الفجوة بين السلطة والمجتمع، ويزداد الإحساس العام بأنّ النظام فقد شرعية تمثيله الأخلاقي والروحي.
حين أطلق المرشد الأعلى علي خامنئي في أكتوبر 2023 شعار “طوفان الأقصى”، كان الهدف المعلن هو دعم المقاومة الفلسطينية وإعادة تشكيل المعادلة الإقليمية من موقع القوة. لكن بعد عامين، تحوّل الطوفان إلى ارتداد سياسي مكلف. فقد تراجعت حماس عسكريًا بعد خسارتها لغزة، ودخلت في مفاوضات مع واشنطن والقاهرة حول ترتيبات ما بعد الحرب، بينما غرق حزب الله في لبنان في استنزاف عسكري واقتصادي غير مسبوق، أفقده جزءًا كبيرًا من حاضنته الشعبية.
أما في اليمن، فقد اضطر الحوثيون – الذراع الأكثر نشاطًا لطهران – إلى القبول بوقف إطلاق النار وإعادة فتح الموانئ تحت إشراف دولي، بعد سلسلة ضربات أمريكية وبريطانية أنهكت قدراتهم. وفي سوريا، لم تعد إيران قادرة على الحفاظ على نفوذها كما في السابق، إذ إنّ الغارات الإسرائيلية المكثفة دمّرت عشرات المواقع التابعة للحرس الثوري في دمشق وحمص ودير الزور، فيما عادت روسيا لتفرض هيمنتها الكاملة على القرار العسكري في البلاد.
حتى في العراق، الذي كان يُعتبر الرئة السياسية والمالية للمشروع الإيراني، بدأت ملامح الابتعاد تظهر تدريجيًا. فالحكومة العراقية الحالية، التي جاءت بتوافق داخلي ودعم عربي، تسعى إلى تقليص دور الميليشيات وإعادة تنظيم العلاقة مع واشنطن والخليج. ومع انخراط بغداد في مشاريع اقتصادية عربية وإقليمية، تراجعت قدرة طهران على استخدام الأراضي العراقية كمنصة ضغط ضد جيرانها.
في هذا السياق، يمكن القول إنّ إيران انتقلت من مرحلة “تصدير الثورة” إلى مرحلة “إدارة التراجع”. لقد فشل مشروعها في خلق محور مقاومة متماسك، وتحوّل حلفاؤها إلى عبءٍ سياسي واقتصادي، فيما تصاعدت الكلفة الأمنية لوجودها الإقليمي. ومع عودة الحديث عن “الضربة الاستباقية” الإسرائيلية ضد منشآت نطنز وفوردو، تجد طهران نفسها محاصَرة على أكثر من جبهة دون أن تملك القدرة على الرد الفعّال.
في ظل هذه الأزمات المتشابكة، عاد الشارع الإيراني إلى التعبير عن غضبه بطرق جديدة. فبدلاً من التظاهرات السياسية المباشرة، اتخذت الاحتجاجات طابعاً حقوقياً وإنسانياً تحت شعار “ثلاثاء لا للإعدام”. هذه الحملة التي انطلقت من عائلات السجناء السياسيين سرعان ما تحوّلت إلى حركة رمزية تعبّر عن رفضٍ شامل لسياسات الترهيب.
في الأسبوع الأول من أكتوبر 2025، شهدت مدن مثل شيراز وأصفهان ومشهد تجمعات صامتة رفعت فيها صور 17 سجيناً سياسياً من أنصار “مجاهدي خلق” مهددين بالإعدام. ورغم التضييق الأمني، انتشرت صور تلك الوقفات على مواقع التواصل لتثير موجة تضامن واسعة في الداخل والخارج.
ما تكشفه هذه الظاهرة أن المجتمع الإيراني بات أكثر جرأة في تحدي السلطة، وأكثر وعيًا بربط القضايا الحقوقية بالسياسات الخارجية. فشعار “لا للإعدام” لم يعد مجرد مطلب إنساني، بل أصبح رمزاً للاحتجاج على نظامٍ يستخدم الخوف كأداة حكم. وقد كتب أحد المعلقين في صحيفة اعتماد: “حين يعجز النظام عن تقديم الخبز والحرية، لا يبقى أمامه سوى المقصلة”.
تزايد الإعدامات في العامين الأخيرين – والتي تجاوزت 800 حالة وفق منظمات دولية – يعكس ذعر السلطة من احتمالات الانفجار الشعبي، خصوصًا بعد موجة الاحتجاجات الواسعة عام 2022 عقب مقتل مهسا أميني. النظام يدرك أن أي تساهل في الداخل سيُفسَّر كضعف، لذلك يلجأ إلى القوة المفرطة، غير مدرك أن القمع المفرط يولّد بالضرورة مقاومة أكثر عنادًا.
اقتصادياً، لا يختلف المشهد كثيراً عما كان عليه في سنوات العقوبات القصوى. فالتضخم تجاوز 50%، والعملة المحلية تراجعت إلى أدنى مستوياتها في التاريخ الحديث، فيما بلغت معدلات البطالة مستويات قياسية تجاوزت 30% بين الشباب. ومع خروج آلاف الشركات الأجنبية بعد تجميد الاتفاق النووي، تراجع الاستثمار الداخلي وتزايد الاعتماد على الاقتصاد الموازي الذي يسيطر عليه الحرس الثوري.
في هذا الإطار، يشير مراقبون إلى أن إيران لم تعد دولة ريعية تعتمد على النفط فحسب، بل باتت دولة “اقتصاد عسكري” يدار من قبل شبكات مصالح تابعة للمؤسسات الأمنية. هذا التحول جعل الإصلاح الاقتصادي شبه مستحيل، إذ إنّ أي خطوة باتجاه الشفافية أو تقليص هيمنة الحرس الثوري تعني عمليًا المساس بالركيزة المالية للنظام.
وبينما تحاول الحكومة امتصاص الغضب الشعبي عبر زيادات في الرواتب ودعم المواد الأساسية، يزداد الشعور العام بالعجز وفقدان الأمل. فالشعب يرى أن مشكلته ليست في العقوبات الخارجية فقط، بل في الفساد الداخلي الذي يبتلع كل الموارد.
يمكن تلخيص المشهد الإيراني الراهن بثلاث دوائر من الأزمات المتداخلة:
الأولى: مأزق نووي مفتوح يعيد إيران إلى ما قبل الاتفاق، مع ما يعنيه ذلك من عزلة اقتصادية خانقة واحتمالات مواجهة عسكرية مع إسرائيل أو الولايات المتحدة.
الثانية: انقسام داخلي متسارع بين أجنحة النظام نفسها، حيث بات الصراع على هوية الجمهورية الإسلامية أكثر خطورة من الصراع مع المعارضة.
الثالثة: تراجع إقليمي غير مسبوق، فقدت معه طهران أدوات النفوذ التي بنتها على مدى عقدين، من العراق إلى لبنان واليمن وسوريا.
إيران اليوم محاصرة بثلاثة جدران متشابكة: جدار العقوبات الخارجية، وجدار الانقسام السياسي الداخلي، وجدار الانحسار الإقليمي. خلف هذه الجدران يقف نظامٌ متعب يحاول الدفاع عن بقائه بشتى الوسائل، من القمع إلى تصدير الأزمات، دون أن يمتلك رؤية واضحة للخروج من المأزق.
لقد فقدت طهران عنصر المبادرة الذي ميزها منذ ثمانينيات القرن الماضي، وتحولت من “مُصدّر للثورة” إلى نظامٍ في وضع دفاعي دائم. حتى الخطاب الرسمي بات أكثر توتراً وتكراراً لعبارات “الصمود والمقاومة” التي لم تعد تُقنع أحداً. فالشعب الإيراني لم يعد يخاف، والمنطقة لم تعد تهاب، والغرب لم يعد يراهن على “اعتدال إيراني” غير موجود.
إنّ السؤال الذي تطرحه تطورات خريف 2025 ليس ما إذا كانت إيران ستتراجع، بل كيف ومتى وبأي ثمن. فكل المؤشرات تشير إلى أن مرحلة ما بعد خامنئي، حين تحين، ستكون لحظة مفصلية قد تحدد مصير النظام بأكمله. فإما أن تنجح إيران في إعادة تعريف نفسها كدولة طبيعية تبحث عن مصالحها ضمن النظام الدولي، أو أن تواصل انحدارها في مسار الانغلاق والعزلة حتى السقوط.
الملف النووي، التفكك الداخلي، وفقدان النفوذ الإقليمي ليست ملفات منفصلة، بل حلقات في سلسلة واحدة تعكس أزمة مشروع بأكمله. ومن لا يُراجع نفسه في الوقت المناسب، سيتحوّل من لاعبٍ إقليمي إلى متفرّجٍ على سقوطه.