حسن محمودي يكتب لـ(اليوم الثامن):

طهران ضد الإنترنت.. حرب فاشلة على شباب إيران

لم يعد الإنترنت في إيران مجرد وسيلة للترفيه أو التواصل الاجتماعي، بل أصبح خط حياة حقيقي لشريحة واسعة من الشعب، خصوصاً الشباب الذين يمثلون أكثر من نصف عدد السكان. في بلد يرزح تحت ثقل العقوبات الدولية، وتتحكم فيه سلطة دينية ترى في كل نافذة مفتوحة على العالم تهديداً لوجودها، تحوّل الإنترنت إلى ساحة صراع يومية بين مجتمع يتطلع إلى الحرية، ونظام يخشى من أبسط أشكال الحقيقة. ما نشهده اليوم ليس مجرد سياسة لتقييد الوصول إلى المعلومات، بل معركة وجودية يخوضها النظام الإيراني ضد جيل كامل لا يعرف الخوف ولا يقبل الصمت.

الهزيمة الدبلوماسية التي مُني بها النظام في 28 سبتمبر 2025 مع تفعيل جميع العقوبات الأممية عبر آلية "الزناد"، شكّلت لحظة مفصلية في هذا المسار. فقد كان من الواضح أن طهران عجزت عن منع المجتمع الدولي من المضي قدماً في تشديد الخناق عليها، بعد فشل شركائها الروس والصينيين في تعطيل هذه الخطوة. في ظل هذا العجز، لم يجد النظام سوى العودة إلى أدواته التقليدية: القمع الداخلي وتشديد السيطرة على الفضاء الرقمي. هنا يظهر بوضوح كيف أن النظام الذي يفترض أن يكون منشغلاً بمواجهة العزلة الدولية، قرر أن يوجّه سلاحه إلى الداخل، ضد الشباب، ضد العقول، وضد كل من يحاول أن يتنفس خارج حدود الرقابة الرسمية.

في اليوم السابق لتفعيل العقوبات، وتحديداً في 27 سبتمبر، أصدر مكتب النائب العام في طهران بياناً شديد اللهجة يحذّر وسائل الإعلام المحلية من "التساهل في نشر الأخبار" ويأمرها بالامتناع عن أي محتوى قد يُفسّر على أنه "إخلال بالأمن النفسي للمجتمع". هذه اللغة لم تكن جديدة، لكنها كشفت حجم الذعر داخل أروقة السلطة. فالعام الدراسي بدأ، والمدارس والجامعات في إيران كانت تاريخياً بؤراً للحراك والاحتجاج. النظام يعرف أن أي شرارة في الحرم الجامعي يمكن أن تتحول إلى موجة احتجاجية وطنية، كما حدث في انتفاضة نوفمبر 2019 أو احتجاجات 2022 التي أشعلتها قضية مهسا أميني. ولذلك جاء التهديد هذه المرة مضاعفاً، موجهاً إلى الإعلام أولاً وإلى الطلاب ثانياً، ومحاطاً بإجراءات عملية تتمثل في إبطاء الإنترنت وفرض الرقابة المشددة على مواقع التواصل.

وفق تقرير "سبيدتست" الصادر في أغسطس 2025، احتلت إيران المرتبة 139 عالمياً في سرعة الإنترنت، وهي مرتبة لا تليق بدولة تدّعي امتلاك مشروع تكنولوجي وصناعي. هذه الأرقام لم تأتِ مصادفة، بل نتيجة سياسة ممنهجة تقوم على حرمان الإيرانيين من الوصول السريع إلى المعلومة، وقطع الطريق أمام انتشار الأخبار أو تنظيم الاحتجاجات عبر الفضاء الرقمي. وبالنسبة لشباب إيران، الذين يرون في الإنترنت وسيلتهم للتعبير والتعلم والانفتاح، فإن هذه السياسة لا تعني سوى أن النظام يحاول حرمانهم من الهواء الذي يتنفسونه يومياً.

لكن الخوف الحقيقي للنظام له اسم محدد: منظمة مجاهدي خلق الإيرانية. فمنذ سنوات، يكرر المسؤولون الإيرانيون في خطبهم وتصريحاتهم أن المعارضة المنظمة، خصوصاً مجاهدي خلق، تستخدم الإنترنت كمنصة للتأثير في عقول الشباب وتنظيمهم ضد السلطة. في خطبة الجمعة الأخيرة بمدينة شيراز، حذّر الإمام لطف الله دژكام من "نشاط واسع للمجاهدين في الفضاء السيبراني"، بينما كتبت صحيفة "همشهري" في 7 سبتمبر أن "الجيل الجديد لم يدرك بعد خطورة هذه المنظمة". هذا الاعتراف المتكرر ليس مجرد بروباغندا، بل انعكاس لحقيقة أن المعارضة استطاعت عبر الإنترنت أن تملأ الفراغ الذي تركته وسائل الإعلام الرسمية الموجهة، وأن تتحول إلى مصدر بديل للمعلومة والأمل.

أجهزة المخابرات نفسها لم تُخفِ هذا القلق. ففي أغسطس الماضي، نشر موقع "ديده بان إيران" التابع للدولة مقالاً صريحاً يقول إن "الشبكات الاجتماعية أصبحت شبكة المجاهدين الخفية للجيل الشاب"، داعياً إلى تفكيك هذه الشبكة بأي وسيلة. هذه اللغة تعكس عمق أزمة النظام: فهو لا يواجه فقط مطالب اجتماعية أو اقتصادية عابرة، بل يواجه تنظيماً معارضاً قادراً على استغلال التكنولوجيا لصالحه، ما يجعل المعركة غير متكافئة.

غير أن المفارقة تكمن في أن هذه الحرب التي يشنها النظام على الإنترنت تأتي بنتائج عكسية. فبدلاً من إخماد الغضب، تزيد القيود من حجم الكراهية. صحيفة "هم-ميهان" التابعة للدولة اعترفت في 23 سبتمبر بأن "المرشحات التي فُرضت على المواقع والشبكات الاجتماعية أدت إلى تفاقم غضب الشباب بدلاً من تهدئته". الشباب الذين يرون الإنترنت كجزء أساسي من حياتهم اليومية لا يتعاملون مع هذه القيود كإجراء إداري، بل كإهانة شخصية تمس كرامتهم وحريتهم.

الأرقام تؤكد هذا. علي ربيعي، المستشار الخاص للرئيس مسعود بزشكيان، قال في أغسطس الماضي إن الإنترنت بالنسبة لـ50% من الإيرانيين أهم من الماء والكهرباء. هذا التصريح يكشف حجم التغير الاجتماعي في إيران، حيث أصبح العالم الافتراضي جزءاً من البنية الأساسية للحياة اليومية، لا يقل أهمية عن الغذاء أو الطاقة. وبالتالي، فإن محاولة النظام حرمان نصف السكان من هذا الحق تمثل إعلان حرب على نمط حياتهم بأكمله.

يد الله جواني، نائب قائد الحرس الثوري، ذهب أبعد من ذلك عندما اعترف في 18 سبتمبر بأن "العدو ركز أكثر من 60% من أنشطته على الفضاء السيبراني والإعلام"، مضيفاً أن النظام "في وضع حساس للغاية". هذا التصريح لا يمكن اعتباره مجرد خطاب سياسي، بل هو إقرار مباشر بأن المعركة الحقيقية لم تعد تُخاض في ساحات الحرب التقليدية، بل في الفضاء الرقمي حيث المعلومات أقوى من الرصاص.

وبينما يشتد القمع في الداخل، كان الخارج يرسل رسالة مغايرة تماماً. في الفترة من 21 إلى 28 سبتمبر، شهدت نيويورك تظاهرات ضخمة نظمها الإيرانيون المقيمون في الولايات المتحدة، تزامناً مع اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وتفعيل آلية الزناد. آلاف المتظاهرين رفعوا شعارات الحرية، وطالبوا المجتمع الدولي بدعم الانتفاضة داخل إيران. هذه التظاهرات، التي شارك فيها جيل كامل من المنفيين والمعارضين، عكست إرادة لا تقل قوة عن تلك التي تُبديها الحركات داخل إيران، وأرسلت رسالة واضحة إلى النظام مفادها أن محاولاته لعزل الشعب لن تنجح.

هنا تتضح الصورة الكاملة: النظام الإيراني محاصر خارجياً بعقوبات مشددة، وداخلياً بشعب غاضب يزداد إصراره على الحرية. الإنترنت في هذه المعادلة ليس مجرد تقنية، بل جبهة مقاومة. كل حجب لموقع، وكل إبطاء للسرعة، وكل محاولة لإغلاق نافذة على العالم، تتحول إلى وقود إضافي للغضب الشعبي. هذا ما فشل النظام في استيعابه منذ احتجاجات 2009، حين لجأ لأول مرة إلى قطع الإنترنت لوقف موجة الاحتجاجات، لكنه وجد أن الخطوة لم تؤدِّ سوى إلى مضاعفة الغضب. الأمر نفسه تكرر في 2019 و2022، ويتكرر اليوم بوتيرة أسرع وأعمق.

إن المعركة الحقيقية التي يخوضها الإيرانيون اليوم ليست فقط من أجل حرية التعبير، بل من أجل إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع. فالدولة التي تحرم شعبها من المعلومة تحكم عليه بالعمى، والمجتمع الذي يُجبر على العيش في الظلام يبحث دوماً عن الضوء في أي مكان آخر. هذا الضوء وجد طريقه عبر الإنترنت، حيث يستطيع الشباب التواصل مع العالم، والتعلم، وتنظيم أنفسهم، وبناء بديل سياسي واجتماعي يهدد النظام القائم.

المجتمع الدولي، من جهته، يملك فرصة تاريخية للانحياز إلى الشعب الإيراني. تفعيل العقوبات خطوة مهمة، لكنه ليس كافياً. المطلوب هو الاعتراف بأن القمع الداخلي للنظام جزء لا يتجزأ من تهديده الخارجي، وأن دعم حق الإيرانيين في الوصول الحر إلى المعلومات ليس فقط قضية إنسانية، بل استراتيجية تصب في مصلحة الاستقرار العالمي. فالنظام الذي يخشى من كلمة أو صورة أو تغريدة هو نفسه الذي يزعزع أمن المنطقة عبر ميليشياته وصواريخه.

إن إيران اليوم تخسر معركة الإنترنت، لكن خسارتها الأهم ستكون حين يدرك العالم أن الحل النهائي لن يأتي من التفاوض مع نظام غارق في القمع، بل من الوقوف مع شعب يكتب مستقبله بيديه. الشباب الإيراني لا يطلب المستحيل، بل يطالب بحق طبيعي في الحرية والمعلومة والكرامة. وكلما حاول النظام قطع هذه الحقوق، كلما اقترب أكثر من نهايته المحتومة.