حسن محمودي يكتب لـ(اليوم الثامن):
الخيار أمام المجتمع الدولي.. مواجهة النفوذ الإيراني أم ترك لبنان رهينة؟
زيارة علي لاريجاني المرتقبة إلى بيروت يوم السبت 27 سبتمبر 2025 لا يمكن النظر إليها كبند بروتوكولي في أجندة مسؤول إيراني سابق أو كمجرد محطة في جولة شرق أوسطية، بل هي رسالة استراتيجية من طهران إلى الداخل والخارج معاً. لاريجاني ليس شخصية عابرة؛ فهو رئيس سابق لمجلس الشورى الإيراني، شغل منصب الأمين العام لمجلس الأمن القومي الأعلى، ويمثل في نظر كثيرين “صوت المرشد” حين يتعلق الأمر بالملفات الحساسة. حين ترسله إيران إلى بيروت، فهي لا ترسله ليجتمع بوفود حزبية أو ليتبادل المجاملات، بل لتثبيت معادلة جديدة: لا فصل بين البرنامج النووي الإيراني وبين سلاح حزب الله، ولا نقاش حول مستقبل المنطقة من دون الاعتراف بهذه المعادلة.
منذ مطلع الثمانينيات، حين أسس الحرس الثوري حزب الله في لبنان بدعم مالي وعسكري مباشر، اتضح أن طهران أرادت ذراعاً ثابتة على المتوسط، قادرة على تهديد إسرائيل حين تشاء، وعلى تمثيل نفوذها في قلب المشرق العربي. ومع مرور العقود، تحوّل الحزب إلى أكثر من مجرد حركة مسلحة؛ صار أداة متعددة الوظائف: يقاتل في سوريا دفاعاً عن نظام الأسد، يرسل خبراء ومستشارين إلى العراق واليمن، ويوظّف في الداخل اللبناني كقوة سياسية واجتماعية تسيطر على القرار الاستراتيجي. ولأن إيران ربطت مشروعها النووي بمشروعها الإقليمي، صار حزب الله ليس فقط ذراعاً عسكرية بل ورقة تفاوضية: كلما اشتدت الضغوط على المفاعلات في نطنز وفوردو، لوّحت طهران بصواريخ الضاحية الجنوبية وبقدرة الحزب على إشعال جبهة الشمال الإسرائيلي.
الزيارة تأتي في توقيت بالغ الحساسية. المفاوضات النووية متوقفة منذ أشهر، والتهديدات بعودة العقوبات الأممية تتصاعد. الولايات المتحدة وأوروبا تتحدثان عن تفعيل “آلية الزناد” في مجلس الأمن، بينما إسرائيل تلوّح بخيارات عسكرية أحادية. في هذا المناخ، اختارت طهران أن تبعث بلاريجاني إلى بيروت لتقول: إذا أردتم أن تضغطوا علينا في الملف النووي، فاعلموا أن الرد سيكون عبر أذرعنا في المنطقة، وفي مقدمتها حزب الله. إنها رسالة ابتزاز واضحة: أي اتفاق نووي لا بد أن يتضمن التسليم بدور حزب الله والميليشيات الأخرى. بهذا، يصبح الملف النووي مجرد مدخل لإعادة طرح النفوذ الإيراني كحقيقة لا يمكن تجاوزها.
لكن الرسالة لا توجه للخارج فقط. في الداخل اللبناني، تمثل زيارة لاريجاني تجديداً للعقد مع الحزب. فإيران تريد أن تطمئن قاعدتها وحلفاءها بأن دعمها المالي والعسكري مستمر، وأن لا نية لديها للسماح بأي مسار جدي لنزع سلاح الحزب. بالنسبة للقوى الموالية لطهران، سيُقدَّم الأمر على أنه “ضمانة للمقاومة” ورسالة ردع لإسرائيل. أما بالنسبة لجزء كبير من اللبنانيين، فالزيارة تمثل تحدياً صارخاً لسيادة الدولة. كيف يمكن للبنان، الذي يعيش أزمة اقتصادية خانقة، أن يتحمل فوق أزماته أن يُدار من الخارج؟ العملة فقدت أكثر من 90% من قيمتها، نسبة الفقر تجاوزت 70%، البطالة في مستويات غير مسبوقة، والدين العام يقترب من 100 مليار دولار. ومع ذلك، يأتي مبعوث إيراني ليؤكد أن سلاح حزب الله “خط أحمر”. في نظر شريحة واسعة من اللبنانيين، هذا إعلان وصاية لا يختلف كثيراً عن أي احتلال مباشر.
البعد الدولي للزيارة لا يقل خطورة. إيران تدرك أن واشنطن وبروكسل تسعيان إلى حصر الملف النووي في حدود تقنية: نسب التخصيب، أجهزة الطرد المركزي، آليات التفتيش. لكن طهران تريد أن توسّع الطاولة، أن تجعل النقاش يشمل الميليشيات والصواريخ والممرات البحرية. بهذا الشكل، تصبح المفاوضات أكثر تعقيداً، وتتحول من نقاش فني إلى مواجهة سياسية–أمنية شاملة. لاريجاني، بصفته مبعوثاً خاصاً لخامنئي، يقول بوضوح: لن نقبل بأن يُختزل الملف في النووي، ولن نتخلى عن حزب الله مهما كانت الضغوط. إنها معادلة “النووي + النفوذ” مقابل أي تسوية. بالنسبة للغرب، هذا يعني أن فرص الحلول الدبلوماسية تتضاءل، لأن القبول بشرعية حزب الله كقوة إقليمية سيضعف التحالفات التقليدية ويخلق صداماً مع إسرائيل ودول الخليج.
لبنان في قلب هذه المعادلة يبدو الخاسر الأكبر. البلد الذي يعاني من فراغ سياسي مزمن، ومن مؤسسات شبه مشلولة، يجد نفسه مرة أخرى ورقة في لعبة كبرى. الانقسامات الداخلية ستتعزز: فريق يرى في الزيارة دعماً لـ“المقاومة” وفريق يراها تدخلاً سافراً. وفي الحالتين، لا حلول للأزمة الاقتصادية ولا أفق لبناء دولة طبيعية. استمرار سلاح الحزب يعني عملياً استمرار تعطيل الدولة، استمرار الانقسام، واستمرار عزلة لبنان عن محيطه العربي والدولي. كل محاولة إصلاحية ستصطدم بفيتو مسلح، وكل مبادرة اقتصادية ستتراجع أمام شرط “موافقة الحزب”. وهكذا يغدو لبنان رهينة في لعبة نفوذ لا يملك قراره فيها.
الزيارة أيضاً تحمل رسالة للداخل الإيراني. النظام في طهران يواجه أزمات اقتصادية خانقة: التضخم يتجاوز 40%، الريال في أدنى مستوياته، البطالة متفشية، الاحتجاجات الشعبية تعود بين فترة وأخرى، خصوصاً بين الشباب والنساء. في ظل هذه الأوضاع، يسعى النظام إلى تصدير صورة معاكسة: صحيح أن الداخل مأزوم، لكن النفوذ الإقليمي بخير. إرسال لاريجاني إلى بيروت هدفه أيضاً إقناع الإيرانيين بأن نظامهم لا يزال قادراً على تحدي الغرب، وأن “المقاومة” ما زالت في قلب المعادلة الإقليمية. إنها محاولة لشراء شرعية داخلية عبر استعراض نفوذ خارجي، وهي لعبة جُرّبت في دول أخرى ولم تُثمر سوى مزيد من الاستنزاف.
من الناحية الجيوسياسية، تضع الزيارة المنطقة أمام مفترق طرق. إسرائيل ترى في حزب الله تهديداً وجودياً، والولايات المتحدة تعتبره منظمة إرهابية. أي ربط علني بينه وبين الملف النووي سيعني أن أي مواجهة نووية قد تتحول فوراً إلى حرب إقليمية. وهذا ما تراهن عليه إيران: جعل أي تصعيد ضدها مكلفاً إلى درجة تدفع الغرب إلى التراجع. لكن هذا الرهان يحمل مخاطر جمّة. فحرب شاملة في لبنان لن تكون مجرد مواجهة عسكرية؛ ستكون كارثة إنسانية واقتصادية تضرب بلدًا هشًا أصلاً. والأسوأ أن مثل هذه الحرب قد توسّع نطاقها إلى سوريا والعراق وربما الخليج. أي أن سياسة الابتزاز قد ترتدّ على أصحابها وتفتح أبواباً لا يمكن إغلاقها بسهولة.
المجتمع الدولي أمام تحدٍ واضح: كيف يواجه النفوذ الإيراني في لبنان دون أن يحول البلد إلى ساحة حرب جديدة؟ قرارات الأمم المتحدة، مثل القرار 1559 والقرار 1701، تطالب بنزع سلاح الميليشيات وتعزيز سلطة الدولة، لكن التنفيذ ظل حبراً على ورق. القوى الكبرى مترددة، فهي لا تريد حرباً جديدة، لكنها أيضاً لا تريد ترك لبنان رهينة. ما تحتاجه المرحلة هو استراتيجية متكاملة: ضغط سياسي واقتصادي على إيران، دعم مباشر للمؤسسات اللبنانية الشرعية، وتفعيل أدوات القانون الدولي لمحاصرة أي جهة تنتهك السيادة. من دون ذلك، ستستمر طهران في استخدام لبنان كورقة مساومة، وسيستمر الحزب في تكريس سلاحه كخط أحمر.
العالم العربي أيضاً مطالب بلعب دور أكبر. فغياب موقف عربي موحد منح إيران مساحة للمناورة. من العراق إلى سوريا إلى لبنان، استطاعت طهران أن تتمدد لأن البدائل كانت ضعيفة أو غائبة. لبنان بحاجة إلى دعم عربي واضح يعيد التأكيد على سيادته، ويضع حدوداً للتدخلات الأجنبية. هذا الدعم لا يعني بالضرورة مواجهة عسكرية، بل يمكن أن يكون عبر مساعدات مشروطة، استثمارات استراتيجية، ودعم سياسي للقوى الوطنية التي تسعى لبناء دولة قوية. إذا تُرك لبنان وحده، فسوف يزداد ارتهانه للخارج، وستتراجع فرص استعادة سيادته.
أما القوى الوطنية اللبنانية، فهي أمام مسؤولية تاريخية. الزيارة أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك أن إيران تعتبر حزب الله خطاً أحمر. إذا كان اللبنانيون يريدون استعادة دولتهم، فعليهم أن يوحّدوا صفوفهم، أن يتجاوزوا الحسابات الطائفية، وأن يرفعوا صوتهم عالياً ضد الوصاية. الإعلام الحر، المجتمع المدني، النخب الفكرية، كلهم مدعوون إلى كشف حقيقة ما يجري، وإلى فضح الطابع الحقيقي للزيارة. الأمر ليس مجرد دعم “للمقاومة”، بل تكريس لهيمنة خارجية. صحيح أن الطريق صعب وأن ميزان القوى يميل لغير صالحهم، لكن تراكم الوعي الشعبي يمكن أن يفتح كوة في جدار الوصاية. والتاريخ اللبناني مليء بمحطات أثبت فيها الناس أنهم قادرون على تغيير المسار حين يتوفر الحد الأدنى من الوحدة.
في المحصلة، زيارة لاريجاني إلى بيروت ليست حدثاً عابراً. إنها فصل من صراع أوسع على هوية لبنان ومستقبله. إيران تريد أن تفرض معادلة: النووي في الداخل يقابله نفوذ في الخارج. وحزب الله هو الرابط بين الاثنين. لكن هذه المعادلة، وإن بدت ورقة قوة في المدى القصير، تحمل بذور ضعف خطيرة: فهي تزيد عزلة طهران، تستنزف الداخل الإيراني، وتضع لبنان على خط النار. الزيارة تكشف أن النظام الإيراني لا يستطيع الفصل بين طموحاته النووية وبين أذرعه الإقليمية، فيرهن مستقبل بلد مثل لبنان لمصالحه. لكن الشعوب أثبتت عبر التاريخ أن قدرتها على المقاومة والتغيير أكبر من أي مشروع خارجي. لبنان، برغم أزماته، ليس ورقة في يد أحد، بل وطن له شعب قادر على استعادة قراره حين تتوفر الإرادة. والسؤال يبقى: هل يتحرك المجتمع الدولي والعالم العربي لمساندة هذا الشعب، أم يتركانه رهينة لعبة ابتزاز لا تنتهي؟
– كاتب وباحث إيراني