محمد حسن الساعدي يكتب لـ(اليوم الثامن):
الاتفاق النفطي بين بغداد وأربيل.. خطوة نحو الاستقرار أم تسوية مؤقتة؟
لطالما كان النفط في العراق أكثر من مجرد مورد اقتصادي؛ إنه مركز الثقل الذي تدور حوله السياسة، ومفتاح الاستقرار أو الانقسام في بلدٍ يقوم اقتصاده على عائدات الذهب الأسود. فعلى مدار العقدين الماضيين، مثّل ملف النفط أحد أعقد الملفات الخلافية بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان في أربيل، ولم يكن الخلاف يومًا على الأرقام فقط، بل على من يمتلك حق القرار في إدارة هذه الثروة الهائلة التي تمثل أكثر من 90% من ميزانية الدولة.
منذ عام 2003، ومع تأسيس النظام السياسي الجديد بعد سقوط النظام السابق، تشكلت العلاقة بين بغداد وأربيل على قاعدة التفاهم المشروط، والتنافس المقنّع، والبحث عن توازن هشّ بين مطالب الإقليم في إدارة موارده، ورغبة الحكومة الاتحادية في الحفاظ على مركزية القرار الاقتصادي والسيادي. ومع غياب قانون النفط والغاز الذي يفترض أن ينظم العلاقة بين الطرفين، تحوّل النفط إلى ملف ابتزاز متبادل، تارةً على طاولة الموازنة العامة، وتارةً على حسابات سياسية داخلية أو إقليمية.
خلال السنوات الماضية، تعمقت الأزمة أكثر حين أقدمت حكومة إقليم كردستان على تصدير النفط بشكلٍ مستقل عبر الأراضي التركية متجاوزةً شركة التسويق الوطنية "سومو"، وهو ما اعتبرته بغداد خرقًا صريحًا للدستور العراقي الذي ينص في مادته (111) على أن "النفط والغاز ملكٌ لكل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات"، وأن إدارتهما تتم من قبل السلطات الاتحادية. ومع كل جولة من الخلافات، كانت بغداد ترد بقطع حصة الإقليم من الموازنة، فيما كان الإقليم يلجأ إلى التصدير المنفرد لتأمين رواتب موظفيه وتمويل مؤسساته، لتتحول العلاقة بين الطرفين إلى حلقة مفرغة من الاتهامات والإجراءات المضادة.
لكن التطورات الإقليمية والدولية في السنوات الأخيرة، خصوصًا تراجع أسعار النفط عالميًا، وضغوط صندوق النقد الدولي، وتزايد الحاجة إلى موارد مالية مستقرة، دفعت الطرفين إلى مراجعة حساباتهما. فالعراق الذي يواجه تحديات اقتصادية خانقة بعد سنوات من الحروب والأزمات السياسية، وجد نفسه أمام معادلة لا يمكن كسرها إلا عبر التفاهم الداخلي، والإقليم من جهته أدرك أن الاعتماد على تصدير النفط عبر تركيا دون غطاء قانوني أو توافق سياسي يعرّضه لعزلة اقتصادية متزايدة، خصوصًا بعد قرار محكمة التحكيم الدولية في باريس عام 2023 الذي أوقف تصدير نفط كردستان عبر ميناء جيهان التركي وفرض على أنقرة دفع غرامات كبيرة لبغداد.
في منتصف عام 2025، تم الإعلان عن اتفاق نفطي جديد بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان برعاية مباشرة من رئيس الوزراء العراقي، وبحضور ممثلين عن وزارتي النفط والمالية وشركة سومو. نصّ الاتفاق على أن يسلم الإقليم جزءًا من إنتاجه النفطي – يقدّر بحوالي 400 ألف برميل يوميًا – إلى شركة سومو لتقوم بتسويقه دوليًا، على أن تُودع الإيرادات في حساب موحد تابع للبنك المركزي العراقي، وتُخصَّص منه مبالغ لتغطية رواتب موظفي الإقليم ونفقات التشغيل. بالمقابل، تلتزم بغداد بصرف حصة الإقليم من الموازنة وفق آلية شفافة ومجدولة، بعيدًا عن المناكفات السياسية.
هذا الاتفاق بدا للبعض خطوة جريئة نحو إعادة ترتيب العلاقة الاقتصادية بين المركز والإقليم، وخصوصًا أنه جاء بعد سلسلة من المفاوضات المرهقة التي شاركت فيها أطراف سياسية واقتصادية محلية ودولية. إلا أن آخرين وصفوه بأنه “هدنة اقتصادية” أكثر من كونه “تسوية استراتيجية”، إذ لا يزال غياب قانون النفط والغاز يُلقي بظلاله على أي اتفاق يمكن أن يُبرم بين الجانبين.
من الناحية السياسية، يمكن قراءة الاتفاق في سياق أوسع يتجاوز مسألة تصدير النفط إلى إعادة بناء الثقة بين بغداد وأربيل، وهي الثقة التي تآكلت على مدى سنوات بسبب تراكم الأزمات، بدءًا من قضية المناطق المتنازع عليها مثل كركوك وسنجار، مرورًا بملف البيشمركة وتمويلها، وانتهاءً بتباين المواقف من القضايا الإقليمية والدولية. فالحكومة العراقية، التي تسعى إلى استعادة دورها كضامن للوحدة الوطنية، تدرك أن استمرار النزاع مع الإقليم يضعف موقعها الداخلي ويعقّد علاقاتها الخارجية، خصوصًا مع تركيا وإيران اللتين تمتلكان نفوذًا مباشرًا في الشمال العراقي.
أما من جهة أربيل، فإن حكومة الإقليم تعي أن استمرار العزلة الاقتصادية ليس في صالحها، وأن الأزمة المالية التي واجهتها منذ عام 2017 بعد إجراء استفتاء الانفصال الفاشل جعلتها تدرك أهمية البقاء ضمن الإطار الاتحادي، ولكن بشروط تحفظ استقلالها المالي والإداري. لذلك فإن الاتفاق الأخير، رغم أنه لا يحقق للإقليم كل طموحاته، إلا أنه يمنحه متنفسًا ماليًا ويساعده على تسديد رواتب موظفيه واستعادة بعض الثقة لدى الشارع الكردي الذي سئم من الصراعات السياسية الداخلية بين الحزبين الكرديين الرئيسيين.
اقتصاديًا، يمكن النظر إلى الاتفاق باعتباره ضرورة وطنية قبل أن يكون خيارًا سياسيًا، فهو يسهم في توحيد الصادرات النفطية تحت مظلة الدولة العراقية، مما يعزز مصداقية البلاد في أسواق الطاقة العالمية. كما يساعد في رفع معدلات الإيرادات العامة وتقليص الاعتماد على الاقتراض الخارجي، فضلًا عن أنه يبعث رسالة إيجابية للمستثمرين والشركات الأجنبية التي تنظر إلى العراق كمصدر محتمل للطاقة في ظل اضطراب الإمدادات العالمية.
لكن رغم هذه المكاسب الظاهرة، يبقى الاتفاق هشًا ما لم يُدعَم بإطار قانوني واضح ودائم، إذ لا تزال البنود الأساسية خاضعة للتأويل السياسي. فالاتفاق لم يحدد سقفًا زمنيًا لتنفيذه، كما لم يضع آلية ملزمة لفض النزاعات المستقبلية، وهو ما يجعل احتمالية انهياره واردة في أي لحظة إذا تبدّلت التحالفات السياسية أو تغيرت أسعار النفط أو تدخلت ضغوط إقليمية جديدة.
المعضلة الأكبر أن الاتفاق لا يتعامل مع جذور الخلاف بقدر ما يطفئ حرائقه مؤقتًا. فغياب قانون النفط والغاز، وتأخر تشريعه منذ 2007، يعني أن العلاقة بين المركز والإقليم ستظل أسيرة المزاج السياسي، حيث تُستدعى النصوص الدستورية بحسب الحاجة لا بحسب المصلحة الوطنية. كما أن الخلاف حول المناطق الغنية بالنفط، وعلى رأسها كركوك، يبقى لغماً كامناً قد يُفجّر أي تفاهم اقتصادي، خصوصًا أن كلا الطرفين يعتبر المدينة رمزًا سياديًا وجغرافيًا لا يمكن التنازل عنه.
إضافة إلى ذلك، فإن العلاقة الاقتصادية بين بغداد وأربيل ليست محصورة في النفط فحسب، بل تمتد إلى ملفات المياه والضرائب والجمارك والمعابر الحدودية. هذه الملفات مجتمعة تخلق شبكة معقدة من المصالح المتداخلة التي تتطلب رؤية شاملة لمعالجتها. ومن دون اتفاق شامل يدمج كل هذه الجوانب ضمن استراتيجية اقتصادية اتحادية، فإن أي تفاهم نفطي سيظل جزيرة معزولة وسط بحرٍ من الخلافات.
في المقابل، يجب ألا يُغفل البعد الإقليمي في قراءة هذا الاتفاق. فتركيا، التي كانت لسنوات البوابة الوحيدة لتصدير نفط الإقليم، تجد نفسها اليوم أمام واقع جديد يقلّص من نفوذها الاقتصادي والسياسي في الشمال العراقي، في حين ترى إيران في التقارب بين بغداد وأربيل خطوة يمكن توظيفها لصالحها في موازين القوى الداخلية العراقية، خصوصًا في ظل احتدام الصراع الأميركي – الإيراني في المنطقة. أما الولايات المتحدة، فهي تنظر إلى الاتفاق كجزء من محاولاتها للحفاظ على استقرار العراق وضمان تدفق النفط بشكل منتظم للأسواق العالمية في وقت تشهد فيه المنطقة اضطرابات متزايدة في البحر الأحمر والخليج.
على الصعيد الشعبي، لقي الاتفاق ترحيبًا حذرًا في الشارع العراقي، إذ يرى المواطنون في أي خطوة من شأنها إنهاء الخلافات السياسية فرصة لتحسين الواقع الاقتصادي والمعيشي. فالموظف في بغداد أو أربيل لا يعنيه أين تُباع براميل النفط بقدر ما يعنيه أن تُصرف رواتبه في موعدها وأن تتوفر الخدمات الأساسية. لكن هناك أيضًا مخاوف من أن يكون الاتفاق مجرّد خطوة تكتيكية لكسب الوقت قبل جولة جديدة من المساومات، وهو ما يعكس فقدان الثقة المزمن بين المواطن والطبقة السياسية في العراق.
في المحصلة، يمكن القول إن الاتفاق النفطي بين بغداد وأربيل يمثل فرصة ثمينة لإعادة بناء جسور الثقة، لكنه يبقى ناقصًا ما لم يُدعَّم بإطار قانوني ودستوري شامل. فالعراق بحاجة إلى رؤية وطنية تضع مبدأ "النفط للشعب" موضع التطبيق الفعلي، لا أن يبقى شعارًا يُستدعى في الخطب والمناسبات. كما أن من الضروري إعادة صياغة العلاقة بين المركز والإقليم على قاعدة الشراكة لا السيطرة، والتكامل لا المنافسة، لأن الاستقرار السياسي لا يتحقق إلا حين يشعر الجميع بأنهم شركاء في الثروة والقرار.
إن التحدي الأكبر اليوم لا يكمن في إدارة النفط فحسب، بل في إدارة التنوع العراقي ذاته. فالمسألة النفطية ما هي إلا انعكاس لصراع أعمق حول مفهوم الدولة الاتحادية وحدود صلاحياتها. وإذا لم تُحل هذه الإشكالية على نحوٍ نهائي، فإن العراق سيبقى عالقًا في حلقة مفرغة من الاتفاقات المؤقتة التي تنتهي دائماً إلى نقطة الصفر.
ختامًا، يمكن القول إن الاتفاق النفطي الأخير بين بغداد وأربيل خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنه ليس نهاية الطريق. فهو يشبه “جسرًا هشًا” يربط بين ضفتين تتقاذفهما الشكوك. وسيبقى هذا الجسر قائمًا طالما وُجدت الإرادة السياسية للحفاظ عليه. أما إذا عادت لغة العناد والمكايدة، فإن الجسر سينهار من جديد، ليغرق الجميع في مياه الخلافات التي لم تجف بعد. فالعراق اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يبني مستقبلًا يقوم على التفاهم والشراكة، أو أن يظل أسيرًا لماضٍ يستهلك ثرواته ويبدّد وحدته. والقرار في النهاية بيد صُنّاع السياسة، إن أرادوا للوطن أن يستقر فعليهم أن يتعاملوا مع النفط كأداة بناء لا كوقودٍ للخلاف.