سمير عادل يكتب لـ(اليوم الثامن):
لماذا أُثيرت قضية "خور عبد الله" الآن؟ ومن يقف وراءها؟
المأساة ليست في مَن يبيع الأوهام، إنما في مَن يشتريها دون أن يدرك أنه وقع في كمين سياسة التضليل. وعند إدراك الحقيقة، لا يمكن حتى اعادتها الى صاحبها او يعيد بيعها للتخفيف من وجع السقوط فيها.
السيادة، بالمفهوم البرجوازي للدولة القومية، غير موجودة في العراق. فهناك أكثر من خمسين نقطة وقاعدة وموقعًا عسكريًا تركيًا في كردستان العراق، فلا ذكر لها في الإعلام حتى من باب تسجيل موقف. أما الميليشيات المنضوية في "الحشد الشعبي"، الذي أُقِرَّت شرعيته بقانون صادق عليه مجلس النواب عام ٢٠١٦، فَرئيس أركانه بو فدك يعلن أنه ينتظر أوامر من المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، للرد على إسرائيل إثر اغتيالها لرئيس المكتب السياسي لحماس في طهران قبل أشهر. ولا حديث او حتى عتاب بين الأحبة على هذا التصريح -حكومة السوداني ووزرائها- وهناك مجموعات أخرى تصرّح بأن نزع سلاحها على يد الحكومة مجرّد “وهم”، بل وتقوم بتهديد الحكومة العراقية اذا ما أقدمت عليه. وبين هذا وذاك فموسم المسيرات في ضرب الحقول النفطية في دهوك والسليمانية ومطار كركوك، في بلد، ليس لمسؤوليه شغل ولا شاغل سوى العويل والبكاء على حصر السلاح بيد الدولة وقدسية السيادة. من جهة أخرى، حوّلت كل من إيران وإسرائيل السماء العراقية خلال ١٢ يوم من القتال إلى ساحة للعبة كرة المنضدة، حيث يضرب كل منهما الآخر من خلالها. كما أن إيران بين الحين والآخر تقصف مدينة أربيل بحجة استهداف “أوكار الجواسيس الإسرائيليين”، في حين أن أكبر وكر للتجسس على إيران والمنطقة بأكملها هو السفارة الأمريكية في بغداد، التي تعد واحد من أكبر سفاراتها في العالم ويبلغ عدد موظفيها أكثر من 5000 شخص، ومع ذلك فهي محروسة من قبل “الحرس الثوري” وميليشياته الولائية في العراق. ورغم كل هذا، ترتفع سخونة الاحتجاجات والمطالبات حول “خور عبد الله” والبكاء على سيادة العراق!
لماذا هذه الضجة الان حول "خور عبد الله"، ومن يقف ورائها؟:
اتفاقية "خور عبد الله" هي حصاد هزيمة العراق في احتلاله للكويت، وصادقت عليها حكومة المالكي الثانية في ٢٩ نيسان سنة ٢٠١٢، ووقع الاتفاقية عن الحكومة وزير النقل هادي العامري. وتحولت الى قانون المرقم ٤٢ عام ٢٠١٣ بعد مصادقة البرلمان ثم توقيع الرئاسة عليها ونشرت في جريدة (الوقائع العراقية) العدد ٤٢٩٩ الصادرة في ٢٥ تشرين الثاني ٢٠١٣، وأودعت في صندوق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعنية.
ثلاثة مشاهد ساخرة في مشهد "الصحوة الوطنية" التي اجتاحت اليوم عقول وصدور عدد من السياسيين في الأحزاب والميليشيات الإسلامية "الولائية": الأول، عددٌ ممّن يرفعون اليوم لواء الوطنية والسيادة، ويتباكون بحرقة على “خور عبد الله”، كانوا جزءًا من حكومة نوري المالكي التي وقّعت على اتفاقية خور عبد الله عام 2012. اما المشهد الثاني: إلغاء الاتفاقية أو إبطال قانون التصديق عليها جاء بعد عشر سنوات من المصادقة عليها، وتحديدًا في 4 أيلول/سبتمبر 2023، وهو ما يطرح تساؤلات جدّية حول التوقيت والدوافع. والمشهد الأخير، أن القاضي فائق زيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى، كان شاهدًا على قرار المحكمة الاتحادية بإبطال القانون، وهي محكمة تُعد جزءًا من مجلس القضاء الأعلى الذي يتحكم به زيدان نفسه. لكنه اليوم، وبعد سنتين من القرار، يفاجئنا بمقالٍ في صحيفة الشرق الأوسط (الصادرة في 25 تموز/يوليو) يقول فيه إن إلغاء قانون الاتفاقية غير قانوني!
ما كان يقف خلف إبطال الاتفاقية في 2023 هو ببساطة نفوذ إيران في العراق والمنطقة. فعندما تصاعد الخلاف بينها وبين الكويت بشأن حقل الدرة النفطي والغازي الواقع في منطقة خور عبد الله، حركت طهران أذرعها في العراق للضغط على الكويت من خلال إبطال الاتفاقية. فما الذي تغيّر اليوم في المشهد السياسي، حتى ينقسم أهل “الإطار التنسيقي” من نواب وبرلمانيين وسلطة تنفيذية وقضائية، إلى "خونة" و"وطنيين"، وإلى من يبكي بحرقة أشد من حرّ صيف العراق على السيادة وخور عبد الله، ومن يُتّهم ببيع العراق بـ”رخص التراب”؟ الجواب ببساطة، انه الشرق الأوسط الجديد. التحولات الكبرى عصفت بالشرق الأوسط، وفي القلب منها تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة.
هذه الرياح دفعت رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، ورئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد، ورئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان، إلى "الاستيقاظ من الغفوة الوطنية" – إن صح التعبير – ومحاولة اللحاق بالركب الجديد، الذي تتجه سفنه نحو الغرب. ان السوداني، الذي غرق مدّة سنتين في "الصحوة الوطنية" الإيرانية، يحاول اليوم الانسحاب من موقف إلغاء الاتفاقية، بهدف، تحسين موقعه السياسي أمام الكويت، بوصفها بوابة الخليج، وبالتالي المحيط العربي، بما يمنحه فرصة لتعزيز فرص تجديد ولايته بعد انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبلة، وإعادة التموضع سياسيًا بعد تراجع مكانة الجمهورية الإسلامية، من خلال خلق مسافة بينه وبين طهران، في محاولة لكسب رضا المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، وإظهار عدم خضوعه للنفوذ الإيراني – على الأقل في هذه المرحلة – بعد فشله في كبح جماح الميليشيات، ومحاولة تقويض خصومه السياسيين من حلفاء إيران داخل العراق، عبر تقديم نفسه كلاعب مستقل ومتوازن. في المقابل، يحاول خصوم السوداني استخدام ورقة "خور عبد الله" للظهور بمظهر “المدافع عن السيادة”، ووصمه بالخيانة، واتهامه بعدم الأهلية لحماية مقدرات العراق، بهدف النيل منه انتخابيًا.
معضلة "خور عبد الله" لا تكمن في مَن باعها أو مَن اشتراها، ولا في التنازع بين التخوين والوطنية، ولا حتى في ما إذا كان التنازل عنها قانونيًا أم غير قانوني. فجميع الأطراف التي صادقت على الاتفاقية من مختلف الأطراف والاطياف في حكومة المالكي والبرلمان، بمختلف انتماءاتهم، سبق أن قدّموا ثروات العراق وجماهيره على طبق من ذهب للغزاة الأميركيين مقابل تنصيبهم في السلطة.
المعضلة الحقيقية تكمن في غياب الحصانة السياسية لدى الجماهير، ما يجعل من السهل اللعب على عواطفهم وجرّهم إلى أتون الصراع السياسي، مع التعمية على ما وراء هذا الصراع من ضحك على الذقون، في موسمٍ بات معروفًا بـ"الاصطياد في المياه العكرة". الإعلام المأجور والمشبوه، المملوك للأحزاب والميليشيات، ومعه جوقة السياسيين، لم يفتحوا أفواههم يومًا ولم يثيروا أي ضجة حول حقيقة أن الحكومات العراقية المتعاقبة دفعت أكثر من 52 مليار دولار إلى صندوق التعويضات للكويت – وهو مبلغ يفوق أضعاف قيمة “خور عبد الله” نفسه.
إن التغيير الجذري في العملية السياسية، وإنهاء عمر هذه السلطة، هو الطريق الوحيد لحماية مقدّرات الجماهير وثرواتهم، وضمان توزيعها بشكل عادل. وذلك لا يمكن أن يتحقق إلا عبر حكومة غير قومية وغير دينية أي علمانية، تقرّ دستورا وقانونًا مدنيًا ضامنًا للمساواة المطلقة بين جميع المواطنين، دون أي تمييز على أساس القومية أو الدين أو الطائفة أو الجنس.