أزراج عمر يكتب:
حزب جبهة التحرير الجزائري وثقافة الدكتاتورية
لا تزال قضية الطرد الذي نفذه الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني جمال ولد عباس، في الأيام القليلة الماضية، ضد عدد من أعضاء المكتب السياسي لهذا الحزب من دون موافقة لجنته المركزية، أو من دون احترام قانونه الداخلي، تتفاعل على المستوى المركزي بعاصمة البلاد، وعلى مستوى القاعدة في المحافظات في الجزائر العميقة.
وفي هذا الصدد يلاحظ المراقبون السياسيون أن رئاسة الجمهورية قد تكون متواطئة مع جمال ولد عباس في هذه القرارات، والدليل على ذلك أنها لم تحرك ساكنا لوضع حد لتصرفاته الفردية التي ما فتئ يقوم بها منذ اللحظات الأولى من تعيينه كأمين عام لحزب التحرير الوطني، وعلى إثر إنهـاء مهام الأمـين العام السابق عمار سعداني.
بل إن هناك من يؤكد قائلا إنه لا يعقل ألا يكون الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة وجماعته في قصر المرادية غير عالمين بما يحدث من خلافات حادة وتناحر داخل أروقة الحزب الحاكم، علما أن بوتفليقة هو الرئيس الشـرفي لحزب جبهة التحرير الوطني، أو لنقل إنه هو الرئيس الفعلي والحقيقي لـه، أما أمينه العام الحالي أو الأمناء العامون السابقون ومكتبه السياسي ولجنته المركزية، فليسوا سوى مجرد دمى تحرك في المنـاسبات أو حينما يـريد الرئيس نفسه ذلك.
ويعرف القاصي والداني في الجزائر أن المسؤولين الكبار في مختلف أجهزة الدولة الإدارية والأمنية والعسكرية وفي الهرم الأعلى لحزب جبهة التحرير الوطني وفي أحزاب الموالاة لا يملكون مفاتيح القرار السياسي، وبناء على ذلك يعاملهم الرئيس بوتفليقة كموظفين وليس كقادة لهم استقلالية ورأسمال سياسي ومصداقية وقدرة على صنع الأحداث وتحريك الشعب الجزائري.
وردا على قرار جمال ولد عباس المذكور آنفا أصدر مؤخرا عدد من أعضاء المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني الذين تعرضوا للتنحية بيانا رفضوا فيه الإجراء التعسفي الذي قام به ولد عباس وحذروا من مغبة تنفيذه بشكل عملي ورسمي، مثلما صرحوا بأنهم لن يتنازلوا عن مناصبهم كأعضاء منتخبين في المكتب السياسي من طرف اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني.
ومن الملفت للنظر هو أن هذه الأزمة لا تزال ساخنة وينتظر أن تلقي بظلالها على الحياة السياسية الوطنية في الجزائر. وأكثر من ذلك فإن الوقائع تشير إلى أن التململ الذي يعصف بصفوف حزب جبهة التحرير الوطني ينتظر أن يترجم إلى حراك فاعل لأعضائها ضد الأمين العام جمال ولد عباس في المدى المنظور، وقبل شروع النظام الجزائري في الإعلان الرسمي عن الانطلاق في سباق الانتخابات الرئاسية القادمة في العام 2019، وذلك من أجل التخلص منه وتعويضه بشخصية كاريزمية لها جذور في بنية هذا الحزب، تحترم قانونه الداخلي وتتمتع في الوقت نفسه بالشرعية الكاملة.
وفي هذا الخصوص يرى عدد من المحللين السياسيين الجزائريين أن ما يحدث راهنا وما حدث منذ مدة طويلة، بين الجناح المدعو بجناح التقويميين أو التصحيحيين، وبين الجناح الملقب بالتقليدي، من توترات وصدامات تنخر رويدا – رويدا جسد حزب جبهة التحرير الوطني، ليست سوى عرض لجوهر قد شاخ منذ زمان طويل ويحتاج فعليا إلى تغيير راديكالي عميق وحاسم على مستوى البنيات العميقة ذات الصلة بالتنظيم العلمي لهذا الحزب وبمنهج عمله، وبمنظومة الأفكار التي يفترض أنها تشكل معمار العقيدة.
وفي الواقع فإن تشخيص مرجعيات فشل حزب جبهة التحرير الوطني في تجاوز عقده الكثيرة نجده في كتابات مصطفى الأشرف، أحد الزعماء الخمسة لحركة التحرر الوطني الجزائري، والتي رصد وحلل فيها نقديا المركب الكلي الذي أفرز، ولا يزال يفرز، أزمة السلطة القومية في الجزائر وذلك بواسطة إضاءة خلفياتها التاريخية أثناء مقاومة الاحتلال الفرنسي وبعد الاستقلال مباشرة أيضا.
وفي تقدير مصطفى الأشرف فإن حزب جبهة التحرير الوطني له دور كبير في غرس الحكم الدكتاتوري في الجزائر منذ نشأته الأولى، وفي هذا الخصوص أوضح الأشرف أن “جبهة التحرير الوطني، بعد أن تشكلت كمنظمة عسكرية للكفاح المسلح وللحرب الثورية الجذرية، لم تهتم بتحديد بنياتها لتعمل كحزب له قيادة، وله نشاط معين، وله نظام مستقل يتقيد به المناضلون، وله مذهب عقائدي للتوجيه، وله سلطة قومية عليا قائمة باستمرار فوق الجميع، ولذلك اضطرت جبهة التحرير الوطني بعد الاستقلال، أن تفسح المجال لجيش التحرير لكي يحتل مكان الصدارة”.
وهكذا ندرك أن الأسباب الحقيقية التي ولَدت، ولا تزال تولدُ، الخلافات العميقة بين القيادات الشكلية لحزب جبهة التحرير الوطني، سواء على المستوى المركزي أو في مستوى القاعدة، ليست سوى تعبير عن الأزمة التاريخية لهذا الحزب التي تعود جذورها إلى الفترة التي حددها مصطفى الأشرف.
ولقد أدى هذا ولا يزال يؤدي إلى التخبط والارتجال في مجال الهيكلة الفوضوية على مستوى المدن الكبرى، في ظل الإبقاء على تخلف الأرياف وتغييب العمق الشعبي في الجزائر العميقة، وإلى التذبذب في المواقف التي تتميز عموما بالانقلاب على المبادئ المحورية، وإلى طمس العقيدة وتسميمها بالتناقضات.
وفضلا على ذلك فإن إسناد حزب جبهة التحرير الوطني للمسؤوليات الحساسة في الدولة لغير أهلها قد ساهم بقوة في تثبيت ركائز التخلف في البلاد، وأدى أيضا إلى خلق النزعات الانتهازية في المجتمع الجزائري.
وجراء كل هذه السلبيات المتراكمة أصبح حزب جبهة التحرير الوطني متخصصا في تبرير أزمة تبعيته للنظـام السياسي الحاكم الذي يحركه من وراء الستار، وبوقا لأجهزته الأمنية والعسكرية، كما تحول إلى وكيل يرفع العصا الغليظة في وجه الكفاءات الثقافية والفكرية والعلمية والتربوية والاقتصادية، ويقصي الشخصيات السياسية الوطنية التي يمكنها إطلاق مشروع التنمية الوطنية الحداثي.