أزراج عمر يكتب:
من يعطل تسوية ملف تفجير القنابل النووية الفرنسية في الجزائر
صدر في الأيام الماضية بفرنسا كتاب موثق تحت عنوان “المتضررون من أشعة بيريل: التجربة النووية الفرنسية غير المراقبة” للويس بوليدون الذي عمل سابقا كجندي في القوات النووية بالجيش الفرنسي بالجزائر والذي يعتبر الآن، وبكل المقاييس، شاهدا حيّا على بشاعة جرائم التجارب النووية الفرنسية في الجنوب الجزائري.
وينتظر أن يثير هذا الكتاب – الوثيقة ضجة في المجتمع الفرنسي خاصة وأنه يدخل ضمن إطار المحاولات الكثيرة التي قام ولا يزال يقوم بها الكثير من المؤرخين والمفكرين والأدباء والسياسيين والجنود الفرنسيين المناهضين لجرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وفي غيرها من البلدان الأخرى التي شملتها الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، من أجل تنوير الرأي العام الفرنسي المناهض لموروث الحروب والاحتلال وذلك بواسطة تفكيك البنيات المضمرة لتاريخ الاستعمار الفرنسي من جهة، ومن أجل مخاطبة الضمير الفرنسي الشعبي لتجنيده للضغط بقوة على السلطات الفرنسية لتقديم الاعتذار الرسمي للشعب الجزائري ولتقديم التعويض المادي والمعنوي لضحايا التجارب النووية الفرنسية في الجنوب الجزائري من جهة ثانية.
ورغم أهمية كتاب لويس بوليدون والتوقيت الذي اختاره لإصداره فإنه يبدو واضحا أن النظام الجزائري لم يول هذا الحدث أهمية خاصة تذكر حتى هذه الساعة، علما وأنه كان من المفروض أن يلعب صدور هذا الكتاب المهمّ دورا محوريا في إعادة قضية جرائم فرنسا إلى الواجهة السياسية من جديد، ولكن يبدو أن صوت لويس بوليدون سوف يضيع كما ضاعت من قبل أصوات عدد كبير من النخب الفرنسية السياسية والفكرية التي تصدّت للاستعمار الفرنسي للجزائر، وذلك جراء عدم اهتمام النظام الجزائري بمواقف هؤلاء، وبملف الجرائم النووية الفرنسية الذي ما فتئ يتعامل معه بالتسويف حينا وباللامبالاة حينا آخر منذ نيل الجزائر لاستقلالها إلى يومنا هذا.
وفي الواقع فإن اعترافات هذا الجندي الفرنسي، التي يتضمنها كتابه المذكور سابقا، تعدُّ دون أدنى شك شهادة حيّة أمام الرأي العام الدولي والفرنسي والجزائري معا على جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الفرنسي، والتي لا يمكن للسلطات الفرنسية أن تغطيها وهي حجة دامغة على استخدام الاستعمار الفرنسي لأسلحة الدمار الشامل المحرّمة دوليا.
رغم أهمية اعترافات وحجج هذا الجندي الفرنسي السابق، فإن النظام الجزائري وحراسه لم يقوموا حتى الآن بالترويج عربيا وعالميا للكتب والوثائق التاريخية التي نشرها المؤرخون الفرنسيون المعادون لجرائم الاستعمار الفرنسي، ودون شك فإن مصير كتاب لويس بوليدون سيكون مثل مصيرها والدليل على ذلك هو أن النظام الجزائري لم يحرك حتى الآن جهازه الإعلامي، الذي يكلف الخزينة الوطنية الملايين من الدولارات، لإجراء حوارات مكثفة مع هذا الجندي السابق لكي يقدم للرأي العام الجزائري والفرنسي والعالمي، من خلالها المزيد من المعلومات والشهادات التي تدين جرائم الاستعمار الفرنسي، ومن أجل الكشف أيضا عن ممارسات الحكومات الفرنسية المتعاقبة على قصر الإليزيه التي تستهدف بطرق مختلفة إخفاء وطمس أرشيف المعلومات والوثائق التاريخية ذات الصلة المباشرة بجرائم فرنسا في الجزائر ومنها جريمة التجارب النووية التي دمّرت البشر والطبيعة.
كما أن النظام الجزائري لن يسعى إلى ترجمة كتاب لويس بوليدون إلى اللغات الأخرى وتوزيعه على المستوى العالمي قصد التشهير بجرائم الاستعمار الفرنسي البشعة في الجزائر، وبالتالي من أجل استخدام شهادة هذا الجندي الفرنسي السابق كقوة دافعة لدعم الحركات والمنظمات الإنسانية التي تطالب بإخلاء الأرض من أسلحة الدمار الشامل وفي مقدمتها الأسلحة النووية الفتاكة.
وبالعكس فإن النظام الحاكم في الجزائر اكتفى كعادته بشد العصا من الوسط، حيث أنه لم يحلّ مسألة تصفية ميراث جرائم التفجيرات النووية العسكرية مع الجانب الرسمي الفرنسي ببرنامج فكَ الارتباط مع العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية المؤسسة على الثقافة الاستعمارية.
من المعروف أيضا أن الجزائر تملك حزمة من القدرات المادية والمعنوية الهائلة التي تمكنها من الضغط فعليا على الإدارة الفرنسية لدفع التعويضات لضحايا التفجيرات النووية العسكرية الفرنسية في الجنوب الجزائري على الأقل، علما وأن آثار هذه التفجيرات التي تؤكد جهات عديدة أن إسرائيل قد شاركت فيها من وراء الستار، لم تنته، بل إن عددا من الدراسات الميدانية أكدت ولا تزال تؤكد “أن تجارب القرن العشرين النووية جرائم حرب نووية، شهدتها اليابان والجزائر حيث تم تفجير القنابل الذرية الانشطارية على أراضي هذه البلدان”، وأنه “تسود دائما سياسات تضليلية وإعلام مقصود من قبل الدول الكبرى عندما يتعلق الأمر بمدى الأضرار والأخطار المترتبة على التلوث الإشعاعي الناتج عن التجارب النووية أو عن دفن النفايات النووية”. وتشهد هذه الدراسات على أن التجارب النووية الفرنسية بالجنوب الجزائري لا تزال تدمّر الإنسان والطبيعة هناك حيث أنه “يكفي أن نعرف أنه بعد أربعين سنة لا يزال أهل رقَان ومثلث الموت الذي يزيد عن 1000 كيلومتر مربع يتعرضون للإشعاع”.
في هذا السياق ندرك خطورة تلاعب النظام الجزائري بقضية تفجير القنابل النووية التي قام بها الجيش الفرنسي على الأراضي الجزائرية، حيث يقدر الخبراء النوويون أن عددها يتراوح بين 17 و35 تفجيرا كان مسرحها في منطقة رقان بمحافظة أدرار وفي منطقة الهقار بمحافظة تمنراست وتسببت ولا تزال تتسبب في تدمير البيئة، فضلا عن تفاقم ضحايا الإشعاع النووي من ولادات مشوّهة ومرضى بمختلف الأمراض القاتلة وهم يعدون بالمئات سنويا.
في هذا الخصوص أبرز كاظم العبودي الخبير النووي العراقي، الأخطار الراهنة والمستقبلية لتداعيات التفجيرات النووية الفرنسية في الجنوب الجزائري في حديث له أدلى به لجريدة النهار الجزائرية، قائلا إن “أي فيزيائي بسيط سيجيبك بهذا الخصوص أن عمر المفاعل النووي لا يقل عن 24 ألف سنة، وتبقى كل المنطقة معرضة لخطر الإشعاع النووي لأننا لا نملك أرشيفا وطنيا أو فرنسيا بخصوص التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية.. لا نمتلك لا خرائط ولا ما يسمّى بتحديد نقاط الصفر، وهي التي تعتبر المنطقة المحيطة بها في أعلى مستوياتها الإشعاعية ولا يمكن أن تنتهي حالة تدفق الأشعة في التربة والماء ولا في الهواء المحيط بها، ولهذا فنحن بحاجة إلى حسابات فيزيائية دقيقة لتحديد مستوى الأشعة، تحديد عيّنات من التربة المفتوحة، وإلى ضرورة الكف عن كلمة تجارب نووية ولكن هي تفجيرات نووية عسكرية”.