عدلي صادق يكتب:

بالخط الأحمر

عاش العم الحاج محمود معظم حياته يرتاب في هدايا المناسبات أو يخشاها، مثلما يخشى الجندي الكمائن. فهو لا يرى الهدية، ودادا وكرما. دأب الرجل على التمنع في استلام “النقوط” في أي مناسبة، ثم انسحب ذلك عفويا على الأعطيات الصغيرة، التي يقابلها هي الأخرى بالصدود، وإن اضطر إلى استلامها مع إلحاح المُهدي وتواضع الهدية، فإنه يضمر ردها المستطاع إلى الطرف الآخر، في إهاب أعطية منه في أقرب مناسبة، لا سيما إن كانت فاكهة أو حلوى!

كان طبعه لافتا يُجانب ما جرت عليه العادة من التهادي. وفي أخريات أيامه، سألتُه مستقصيا عن سبب هذا الاستنكاف الغريزي والتلقائي، عن تقبل الهدية، وهو رجل كريم في بيته، والنبي عليه السلام تقبل الهدية الحميدة بنفس راضية!
قال لي إن فلانا جاءنا في مناسبة زواج عمك فلان، مهنئا بشوال كامل “أبوخط أحمر” من السُكّر (والشوال هو كيس من الخيش كانت تعبأ فيه الحبوب ويعبأ فيه السُكر، ويُرسم في منتصفه خط أحمر، كإعلان عن صعوبة تجاوز العبوة القصوى).
وبعد سنوات، اقتنص المهنئ زمن الحرب (العالمية الثانية) لكي يعلن عن زفاف ابنه، بينما المواد التموينية التي تنقلها السفن لم تعد تصل، بسبب انقطاع المواصلات البحرية التجارية وانشغال المراكب بالمواصلات العسكرية وخطورة النقل البحري. فكيف آنذاك، للحاج حسين والد الحاج محمود أن يرد شوالا من السُكّر، بينما أصبح شرب كوب من الشاي أمنية صعبة التحقيق، وعزّت الهريسة وسائر الحلوى؟
مع الحركة الحثيثة لأهل العريس الجديد في التحضير للمناسبة، كانت ثمة حركة أخرى موازية للمدينين بشوال سُكر ذي خط أحمر، تسعى لجمع ما تيسر من الكيلوغرامات، لعلهم يُعبئون شوالا.
 ولم يكونوا سينجحون في جمع ثلاثة عشر كيلوغراما، لولا التعاون على مضض، من جدتي الحاجة معزوزة المولعة بالتخزين.
وكان ما عندها من السُكّر على شكل قوالب ثقيلة شبيهة بمقذوفات المدافع، اعتراها الاصفرار لطول زمنها، وطُحنت. لكن ثلاثة عشر كيلوغراما تمثل في تلك اللحظة ثروة نادرة، حملها الحاج محمود في قُعر شوال، وامتطى حماره متجها إلى مضارب العرس.
وقبل أن يصل إلى موضع المهنئ الأول، هتف: يا عم، جئت لك بالنقوط، ثلاثة عشر كيلو سُكّر. فرد والد العريس بصوت عال: عد إلى أبيك يا بني، إن لنا عليكم شوالا بخط أحمر، وليس كيلوغرامات!
عندئذ أحس الفتى الذي هو نفسه الحاج محمود، بفداحة الثمن، مثلما هو حال الدول التي تعيش على الأعطيات!