عدلي صادق يكتب:

الحشود عوضا عن الصناديق في غزة

ضاقت أكبر الساحات في غزة، وضاقت الشوارع الطويلة المؤدية إليها، بالفلسطينيين منذ صباح الثلاثاء الماضي. كانت المناسبة والسبب المباشر، يتعلقان بتظهير ذكرى رحيل ياسر عرفات، مؤسس الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة. غير أن زَخم الحشد، ينبغي أن يُقرأ في سياقات عدة، تتجاوز دائرة المقارنة، بين علاقة الراحل بالجماهير الفلسطينية، وهي علاقة حميمة وحانية ومتحسسة لمتطلبات الناس، والعلاقة الراهنة بين رئيس السلطة والشعب الفلسطيني.

فالعلاقة الأولى استحثّت حنين الفلسطينيين، بينما العلاقة الثانية انعكست سلبياتها في تلبية الناس لنداء المهرجان، فارتسم الموقف الشعبي، على النقيض مما يريد رئيس السلطة، الذي حاول هو وموالوه إحباط الناس، عندما استعادوا الكلام الجزافي المُرسل، ضد النائب الفلسطيني والمنتخب، وعضو اللجنة المركزية المنتخب، محمد دحلان، وهو كلام رفضته المحاكم التابعة لعباس نفسه، رغم كونه ذا منحى اتهامي يتسم بالخطورة، ينبغي أن يُحال إذا كان فيه شيء من الحقيقة، إلى ساحات القضاء لا إلى شاشات الهواتف والحواسيب بأصابع بعض الذين تبقوا يتسلمون بعض رواتبهم، وأمروا بالهجوم على محمد دحلان، بسبب دعوته إلى المهرجان.

وفي سياق الهجوم الضاري، على دحلان، لإفشال المهرجان، تلقى المهاجمون مددا اتهاميا، وصل في مقارباته التركية، حد اتهام الرجل بالمشاركة في تصفية جمال خاشقجي، وإرسال فريق فني إلى القنصلية السعودية لمحو آثار الجريمة، ما جعل ناطقا باسم رئيس بلد كبير، عرضة لسخرية الفلسطينيين جميعا، سواء كانوا من محبي محمد دحلان أو من المحايدين. واتسمت كل العبارات التي زُجت عبر وسائل التواصل، بالخفة والرعونة، وأدت إلى نتائج عكسية، جعلت نجاح المهرجان، منسوبا إلى الرجل مثلما هو منسوب لأسبابه!

وفي ذلك السياق نفسه، ولكي لا يحتشد الناس، جرى استباق النجاح، بالتحذير ممّا أسموه “المال الإماراتي”، وكأن مئات الألوف من البشر، تلقوا مالا وبسببه يحتشدون، وذلك لكون دحلان ساعد على توفير الأعلام والرايات واللافتات، ووفر بعض الحافلات لمن يرغبون في المشاركة والانتقال إلى ساحة المهرجان الرئيسة، في مدينة غزة.

كان المنطق الذي جرت به محاولات إحباط مهرجان غزة، للتذكير بمناقب زعيم الفلسطينيين الشهيد، يفتقر إلى الحد الأدنى من الذكاء السياسي والموضوعية. وكأن غزة المحاصرة والتي استهدفتها تدابير إقصائية لخنقها وتجويع الوطنيين فيها وأسرهم، ليست لها كلمة عن كل الذي تتعرض له. وكأن الحال الفلسطينية العامة، اليوم، فيها ما يبرر طاعة الناس لرئيس السلطة، سواء على مستوى التفويض الشعبي، أو على مستوى العدالة في منهجية الحكم بقوة الأمر الواقع، أو على صعيد لغته السياسية واعتبارات النزاهة والرفق بالمواطنين. فليس لدى الرجل، سوى أن يشيطن الآخرين، لكي يكون ملاكا.

لكن الناس البسطاء، في عزوفها عنه، وجهت إليه سؤالا يلاءم بساطتها: لماذا لا يبادر هو، على الأقل في مقر الرئاسة “المقاطعة” في رام الله، بحشد مئتي شخص، وليس مئتي ألف شخص، للتذكير بمناقب الزعيم الفلسطيني مؤسس الحركة الوطنية وطرح برنامج عمل لإخراج شعبه من عنق الزجاجة؟ ولماذا لا يسأل نفسه، عن كون الحشود بمئات الألاف متاحة في غزة، وليست متاحة في الضفة على الرغم من أن الإنسان هو نفسه، بوجدانه ومواقفه.

لقد سئم الفلسطينيون الانقسام، وردّوا كل أسبابه إلى محاولات فئتين للهيمنة على السلطة بالقبضة الأمنية وإقصاء الإرادة الشعبية، وفرض أشخاص للحكم بلا تفويض. وبحكم أن طرفي الخصومة، يخشيان نتائج صناديق الاقتراع؛ فقد فعلا كل ما يستطيعان، لاستمرار انسداد المسار الديمقراطي. عندئذ لم يتبق أمام الناس إلا الاحتشاد في الساحات، في مناسبات التذكير بالفواجع وبالرموز. وقد دلت بعض الفعاليات الشعبية في الضفة، على قابلية المنطقة للانفجار الشعبي، وآخرها فعالية الاحتجاج على بنود من قانون الضمان الاجتماعي، أي على مسألة جزئية لا تُقاس بمسألة المصير.

في كلمته أمام الجماهير المحتشدة في غزة، عبر تقنية “فيديو كونفرانس″، دعا دحلان الرئيس الفلسطيني إلى التوجه إلى غزة وتشكيل حكومة وفاق وطني. وأشار إلى أن المنحى الإقصائي يدمر القضية الفلسطينية، وأن الشعب هو الحاضنة الطبيعية له ولغيره. وكان صاحب الكلمة يذكر الرئيس الفلسطيني بأن الإقصاء والممارسات الجارية لإضعاف الحركة الوطنية، لن تصل به إلى النتائج التي يريدها، بل هي تعزز التيار العدمي ومنطق الشعارات اللاواقعية، في وقت بات الفلسطينيون فيه، أحوج من أي وقت مضى، إلى التمسك بثوابت قضيتهم دون إغفال معطيات الواقع ومحددات السياسة التي تجعل العالم يتعاطف مع الشعب الفلسطيني ويساند مطالبه المشروعة.

لقد وصلت الرسالة من غزة، إلى كل المعنيين بالعمل الفلسطيني العام، وإلى قواعد حركة فتح التي تعاني من الانقسام. وفي ذروة بلاغتها، أكدت الرسالة على أن محاولات الإقصاء فشلت فشلا ذريعا، وأن الذين ضاقوا بمحمد دحلان والكادر الوطني من غزة شريكا، سيضيقون منهم أكثر بكثير، كمعارضين متمسكين بانتمائهم لحركة فتح، لن يفلح التنميط واللغة الهجائية الملفقة والملاحقة وغيرها من التدابير الإقصائية في عزلهم، طالما أن هؤلاء يطالبون بوحدة الحركة ووقف التفرد والاحتكام إلى النظام وإنفاذ الوثيقة الدستورية. لقد جرى الاستفتاء في غزة، مستعيضا عن صناديق الاقتراح بالاحتشاد في الساحات!