أزراج عمر يكتب:

سياسات تفريغ الجزائر من الكفاءات الوطنية

في الأيام الماضية شرعت بعض وسائل الإعلام الجزائرية التابعة للقطاع الخاص في طرح مشكلة معقدة وخطيرة تهدد مستقبل الجزائر وتساهم في تمزيق أوصال التنمية الوطنية، وتتمثل في اختفاء الأدمغة العلمية والمهنية والفكرية والتربوية والإعلامية من الفضاء الجزائري.

ويبدو أن الطرح السائد لهذه المسألة ينحصر غالبا في تكرار قراءة مملة من طرف النظام الجزائري وعدد كبير من وسائل الإعلام التي يُتحكم فيها من حيث التمويل والتوجيه السياسي، وتتمثل هذه القراءة في رد رحيل الآلاف من الكفاءات الوطنية للخارج إلى بحث الكفاءات الجزائرية عن البحبوحة المالية بالدرجة الأولى، ولكن هذا النمط من التفسير لمشكلة هجرة الأدمغة هو طرح أحادي البعد، علما وأن القضية هي ذات أبعاد متشابكة وتتلخص في سياسات التحقير الذي يمارس في الجزائر ضد المثقفين والباحثين ومختلف المهنيين. وهو الوضع الذي يفرض على هؤلاء البحث عن بلدان تحترم العلم والعلم والفكر والفن والتقنية.

بناء على ما تقدم فإن قضية التهجير المنهجي للأدمغة الوطنية هي أمر مقصود ومخطط له ويتحمل مسؤولية نتائجه الوخيمة النظام الجزائري بشكل مباشر.

في هذا السياق نتساءل لماذا تحاول مجموعة من المنابر الإعلامية الجزائرية في هذه الأيام أن تفتح ملف هجرة الأدمغة الوطنية بمئات الآلاف إلى الخارج وبشكل يهدد التنمية الوطنية ويعرّض الأمن الثقافي والعلمي والفكري في الجزائر للإجهاض؟

وهل يعني إطلاق العنان لهذه المنابر في الوقت الراهن هو نتيجة لتفاقم التناقضات والصراعات غير المعلنة داخل أجهزة النظام، حيث نجد كل طرف منها يسعى إلى النيل من خصمه بواسطة لعب ورقة المهاجرين تمهيدا للانتخابات الرئاسية؟ أم أن ثمة جهات تابعة للسلطة تريد أن تحول الأنظار عن المظاهرات التي تفجرت في الجنوب الجزائري؟

لا بد من الإشارة إلى أن هذه المنابر التي تثير قضية هجرة الأدمغة لا يمكن أن تتحرك عفويا، خاصة وأن أغلب المنابر الإعلامية الجزائرية لا تملك الاستقلال المالي بل تتلقى التمويل من النظام الجزائري، وجراء ذلك فهي لا تقدر على أن تتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة لها دون أن تعرّض نفسها للعقاب كما حصل مع عدة جرائد ومجلات صادرة بالعربية وباللغة الفرنسية، ومع فضائيات حاولت أن تنتقد النظام وأداء الحكومة أو أحزاب الموالاة التي تفرض نفسها في الساحة السياسية كواجهة للسلطة في البلاد؟

لا شك أن الهجرة بشكل عام وهجرة الكفاءات الوطنية بشكل خاص تمثلان مشكلة ضخمة ذات بعدين للنظام الجزائري الذي لم يقدر إلى يومنا هذا أن يجد حلا جديا ومناسبا لهما. وفي الواقع فإن ظاهرة هجرة الأدمغة قد صارت بمثابة النزيف الخطير الذي ينخر جسد الجزائر وخاصة منذ فترة العشرية الدموية وحتى الآن.

ولكن يلاحظ أن هناك مغالطة مقصودة يكرسها النظام الجزائري في خطاباته حول هجرة الأدمغة بشكل محدد، وتتمثل في ترويجه لفكرة الهروب من الوطن والتخلي عنه من طرف الأطباء والتقنيين السامين والإعلاميين والمهندسين بمختلف أنماطهم والأساتذة البارزين في التخصصات العلمية، وإلصاق تهمة الجري وراء المال والشهرة والامتيازات الاجتماعية والبذخ النفسي بهم. حيث وصل الأمر ببعض المسؤولين الجزائريين في مختلف أجهزة الدولة إلى تخوين هذه الشريحة من المثقفين، ولكن الحقائق أكدت أن هؤلاء لم يفروا من الواجب الوطني، بل تعرضوا إلى أبشع أشكال التحقير المادي والمعنوي من طرف المسؤولين، سواء على مستوى الإدارات المركزية أو على مستوى إدارات المؤسسات التي ينتمون إليها وظيفيا.

العارف بالواقع الجزائري يدرك خطورة السياسات السلبية التي بموجبها تم القضاء على عدد كبير من الكفاءات الوطنية في مختلف ميادين العلوم والمهن والفكر والفن، ونظرا لذلك فإن المصطلح الملائم لوصف مأساة الأدمغة الجزائرية المهجَّرة هو مصطلح التهجير التعسفي الذي مورس عليهم جراء الضغوط المادية والتهميش المهني والإقصاء المعنوي، وأدى بالبعض منهم إلى البحث عن فضاء بديل يوفر لهم كرامة العيش ويحول دون إجهاض مشاريعهم العلمية والفكرية التي أرادوا من قبل تحقيقها في الفضاء الوطني الجزائري.