احمد عبداللاه يكتب لـ(اليوم الثامن):

البقاء الشاق والسياحة اللاهوتية

التحالف العربي يساعد على تحرير الأرض كما يشاء وكيفما يشاء، وفق أولوياته واختراعاته ومفاهيمه للأوضاع والمآلات، ولا يهم ماذا يحدث بعد ذلك... ربما تعزله أدواته البيروقراطية والإعلامية عن الواقع، أو أنه مصنوع من الصلصال النضيج لا تشده سوى غريزة الجمود بنفس الملامح المستقرة الباردة، إضافة إلى النفخ في تكبيرات المحاربين لإنجاز مهام قتالية لا تتوقف في سياق صراعاته الإقليمية و مصالحه وطموحاته.. دون التفكير بالكتل البشرية التي تصبح وعاء خال إلا من الدماء والبارود والأوبئة. والناس "بلا حدود ولا وعود" تموت في الزحمة، والمدن تُنسى، والمجاعة تشفط أجساد الأطفال تنضّبها ثم تنشرها جلوداً مجففة على حبل الغسيل الفضائي .. وبعد أن ينتبه العالم الخارجي للمصيبة تسيّر قافلة محملة بالسلال الغذائية ترافقها "فرقة حسب الله" الإعلامية كي تصفق الجماهير "شكراً ملوك الحزم".. لكن في البيوت المنسية والشوارع المظلمة والاحياء المزدحمة بالهم والوجع للناس كلام آخر عن العاصفة، مختلف تماما، بمفردات لا تُسمع ولا تقال هنا لكنها قوية وحادة وجارحة معززة بالمرارة مع  كل نفَس يصعد ويضيع.
خيارات التحالف:
تتحرر الأرض وفقاً لمفاهيم عائمة، ثم يتصارع "المنتصرون" حولها.. وتُنسى حتى يهلكها الجوع والعطش والفوضى تحضيراً لحرب أخرى، وهكذا تسير الأمور في متوالية تراجيدية لا توجد إلا في معرّفات داحس والغبراء. كأن الهدف الوحيد للتحالف هو طرد الحوثي، ثم يأتي الطوفان بعده دون أن يضع سكيتش على ورق طائر لتصميم شكل سفينة نوح.
ولا يهم حتى لو خُسفت الإنسانية اليمنية شمالاً وجنوباً تحت ركام الموت والفقر والمرض والفوضى، وحتى لو أن كل تحرير أرض يجر بعده ما هو أقسى (برضه) لا يهم.. لأن التحالف يقاتل عدوه هو، وحسب أوصافه هو، وكما تشاء تطلعاته هو...  وليس من أجل استعادة دولة أحد أو تحرير دولة أحد أو تحقيق الأمن والاستقرار الدائمين للبلد ومواجهة القضايا المعقدة ، فهو "حِلٌّ بهذا البلد" المسحوق يفعل به ما يشاء دون خيارات واضحة تنحاز  للمستقبل الآمن.
لا شيء يتحرك في الأفق غير مشروع حرب بلا أفق.. لا شيء يتحرك على الأرض سوى مشروع اندثار تحت الأرض، مع اختفاء جيل الطفولة، من أتوا إلى الحياة التعيسة قبل وأثناء الثلاثية.. الحوثي والشرعية (الإخوان) والعاصفة.. يموتون بصمت وتبقى ذكرى أجسادهم الضامرة عالقة في الضمائر، تخلدها الأجيال في المتاحف والمعارض وفي التصوير الجداري وعلى غلافات "كتب المآسي الوطنية" وتنتج لأجلها مدارس جديدة في الفنون بألوان الحسرات.
غيارات الشرعية:
لم يدهشنا الفضاء في ليل أرخى سدوله حين "وجّه" الرئيس من قارة بعيدة كلمة عاطفية تشمعت لها الاستديوهات قبل المُقلات حزناً على الشعب الذي استقر في منتصف الجحيم ولَم يعد يقوى على الحركة أو يتذكر كيف تبدو الحياة الطبيعية.. ثم يُسيّر من أجله حاملو الصور في وقفات متكررة تعيد للأذهان "شكل ما" من فعالية انتخابية متواضعة وباهتة لأسماء مغمورة. في مشهد ضئيل الرمزية لا يقنع أحد أنه يشرّف مكانة َرئيس أو عقيدة محارب لأنهم يقدمونه كشخصية منسية يعاد إنتاجها وتذكير الناس بها.
وفي قارة أخرى تستقبل قبائل كندة رئيس "الديوانجية" بالأضواء والأهازيج في مشهد اعلاني لتسويق بضاعة لم يعد لها أثر حتى في نيجاتيف الذاكرة..
نعم قبائل كندة!! وهذا هو الحال يا "امرؤ القيس".. لقد غُدر بأبيك وكان لذلك في غدك أمر.. لكنك لم تكن تدري أنه لولا الشعر لكنت نسيّا منسيّا الآن، خاصة وأن بعض احفاد احفاد احفاد الرمال المتحركة أصبحوا من بعدك قبيلة من السمّار والمنشدين، احتفاءً برجل لم يعد يحفظ من كراريس المدرسة سوى الأقاليم الستة التي لا تحتاج أكثر من حانوتي غليظ القلب وقوي الساعدين.
و"ليس غريبا من تناءت دياره" انما الغريب من تناءى زمانه حتى قبل أن يوارى التراب.
نحن إذن الشعب البشري الوحيد من بين شعوب الله المنحوسة الذي تقوده دون "غيارات" أقوام تجاوزت أعمارهم حيوات قبائل الهونزا البشريين، ليقاربوا بصمودهم تماثيل ربانوي على جزيرة الفصح، التي تبقى أكثر وضوح وحضور من وجوه تاه على صفحاتها الزمن وتركت عليها الأحداث والأزمنة أخاديد مظلمة.
وعلى قارة ثالثة يسعى البقية من هذا الجهاز في طلب الهدوء والابتعاد عن النكد الشعبي المستعر فتصبح الشرعية بهم ومعهم مجسم أممي يُعرض في القارات التي تتصدر الخارطة بكل أشيائهم ومواويلهم وكأنهم قوم توارثوا ثقافة التنقل والترحال.. يفطرون في  "جمهورية بالاو" ويجتمعون في "جمهورية ليبرلاند" وينامون على التضاريس البيضاء لل"انتاركتيكا".
هناك أنماط "طروادية" في التاريخ، لكن أيها الزمن التعيس هنا نموذج ماثل أمامنا أصبح ظاهرة مهلكة ومدمرة. فكل يدخل الجوف الخشبي ليخرج في عتمة الدهاليز السياسية ويحقق ذاته أو يحقق أهداف حزبه بإسم الشرعية. كل أخذ حصته منها دول وأحزاب وأفراد عدا الشعب الملقي على بوابة القيامة بعد أن تدمر فيزيائيا وسيكولوجيا.. فأي زمن نعيش وأي تحالف يتعامل مع وضع البلد المنكوب بهذا العمى والبلادة الرهيبة؟ 
اوقفوا الحرب لأنها مصدر البلاء والشتات والشقاء، ولن يصل أحد إلى هدفه.. لا التحالف ولا الأحزاب ولا المجموعات الدينية ولا غيرهم .. لا الشرعية تطأ أرض صنعاء ولا الحوثي يدخل عدن ثانية. الإرهاب وتجار الحروب والموت والأمراض أولئك من تنعشهم الحرب فقط.
سياحة لاهوتية:
وفي مواقع أخرى يتكامل البلد "المنتّف" مع نظرائه في أرض العرب المنكوبة بآفة الإرهاب المدعوم محلياً (حزبياً) واقليمياً... حيث يتحول الموت إلى سياحة لاهوتية تجذب المحاربين الشباب نحو "دار النعيم" المعدة لهم. وبالتأكيد لا يحتاج الأمر إلى ترجمان يفكك شفرات اللغة التي توجه الطاقة "الإيمانية" بفعل فتاوى رجال الدين من كل الطوائف وهم  يمارسون وظائفهم في الحشد للحروب بطريقة لا تختلف عن مقاطع "الكوميرشال" في التسويق الفضائي للمنتوجات والخدمات. لأن التجارب أثبتت منذ "حسن الصباح" حتى اليوم أن الشرق لديه مخزون كاف من المجاهدين والانتحاريين في كل مرحلة. وفي الوقت الحاضر لا يحتاجون إلا إلى حاو ومنبر وميكروفون حتى ينتشروا خفافا وثقالا… ولا يهم أن يدخلوا ساحات الوغى بعمائم سوداء أو بطرابيش عثمانية.. فالمحاربون هم ضحية هذا الشرق المريض، الذي يبدو أنه اصبح بحاجة ماسة إلى قباقيب جواري شجرة الدر تنهال على جمجمته الفارغة.
هذا ليس كل شيء، فالحرب في نهاية المطاف هي الحرب أينما لمعت النصال، لكن في حالة اليمن تحتاج المسألة الى تفوق في الخيال الصحراوي لوصف الألغاز البدائية ومعرفة القناديل والمهابيل وهندسة المكائد والأحابيل (والذي منه) حول سير المعارك وحالات القوى المتحاربة في نماذجها العجيبة التي تستوجب ابتكار قواميس جديدة لمصطلحات لم يعرفها التاريخ العسكري.. فكل شيء في اليمن مختلف، حتى الإرهاب مغشوش!!!