كرم نعمة يكتب:

من يصنع الرأي العام؟ السياسيون أم الشعب الرقمي

لم يفشل السياسيون على مرّ التاريخ كما فشلوا في معركتهم الدعائية مع جيل الهواتف الذكية! لقد عجزوا عن صناعة رأي هذا الجيل أو مجرد التأثير عليه، بعدما حطم هذا الجيل برغم اندفاعه وعدم قدرته الواضحة على صناعة أفكار مهمة وراسخة، الفكرة السائدة عن السياسيين، وجعلهم مجرّد أشخاص مدفوعين بالمصلحة الشخصية لا يدفعون غير ضريبة الكلام المجرّد.

السياسيون فشلوا في التأثير على الرأي العام في العصر الرقمي، وإذا كان بمقدورنا أن نستعيد كلاما مهمّا لأجيال من السياسيين من العقود الماضية، فإن التاريخ سيفشل في المستقبل في توثيق أيّ كلام يمتلك أهميته للسياسيين الذين عاشوا عصر الهواتف الذكية.

قدّم ونستون تشرشل درسا سياسيا بجملته المشهورة “النجاح هو الانتقال من فشل إلى فشل، دون أن نفقد الأمل” ويمكن أن نستعيد جملا أخرى من هيلموت كول ونوري السعيد وطارق عزيز والأخضر الإبراهيمي وسعود الفيصل.. لكن التاريخ سيفشل في يوم ما عندما يريد أن يستعيد تصريحات سياسيي الزمن الرث الذي حوّل رجال الدين إلى حاكمين باسم الخرافة.

يوجد اليوم تبرير للفشل بفشل آخر من قبل سياسيين غير محظوظين إلا بالاستحواذ على المال في عمليات فساد كبيرة. مواقع التواصل الاجتماعي أوجدت الشعب الرقمي الخارق للحدود ومحطم فكرة حارس البوابة، هذا الشعب مراقب دائم لأفعال السياسيين وتحركاتهم وتصريحاتهم، فمن يصنع الرأي العام ومن يتبعه في نهاية الأمر؟

لم يحسِّن السياسيون من رصيدهم بالخطاب الشعبوي والطائفي والقومي الضيّق، وفشلوا في تشكيل الرأي العام، إلا بحدود عمليات بيع وشراء للقيم. وبقيت الأحزاب السياسية والجمعيات الدينية بعيدة كل البعد عن تأييد الرأي العام، لأنها فقدت فن التواصل مع الناس من أجل تغيير أفكارهم والدفع بهم إلى منظور مختلف. أو بتعبير الكاتب البريطاني كنان مالك في صحيفة الغارديان “إنه فن الإقناع السياسي، وليس الكفاءة في تفكيك الرأي العام، الذي يحتاج إلى إعادة اكتشاف”.

الأنانية قطعت صلة الأحزاب الحاكمة بالناس الذين غالبا ما ينظرون إلى السياسيين بازدراء، بعد أن كان السياسيون يعملون من أجل صناعة الرأي العام، صار عليهم أن يغيّروا أنفسهم وطريقة تفكيرهم تأثرا بالرأي العام الذي يصنعه شعب الهواتف الذكية.

من غير المعقول أن السياسيين غالبا ما لا يأخذون اهتمامات الناس بجدية، سواء كانت اقتصادية أو ثقافية. والأمر الأكثر إثارة للتساؤل هو الإصرار على أنه يجب على الأطراف الحاكمة تغيير سياساتها بحيث تتماشى أكثر مع الرأي العام. دور الأحزاب السياسية لا يعكس الرأي العام فقط، يجب أيضا تغيير الرأي، من أجل كسب الجمهور لمنظور سياسي. وإلا لن تكون هناك حاجة للمناقشة السياسية. وكثيرا ما يعني التعامل مع اهتمامات الناس إعادة صياغة تلك المخاوف لإظهار أن مظالم الناس حقيقية، وإلا قد لا تكون الأسباب والحلول كما تراها النخبة الحاكمة.

لنتأمل كيف انقلب كل شيء في عصر الهواتف الذكية والفضاء الرقمي المفتوح على كل الآراء، لم تعد الحكومات والأحزاب قادرة على التأثير على الرأي العام، لأن له من القوة والكثافة والسرعة والتواصل والقدرة على الوصول إلى كل الإحداث وإعادة تدويرها لتكون في متناول ملايين الناس.

صار السياسيون الفاشلون في التأثير على الرأي العام يستعينون بالذباب الإلكتروني من أجل الترويج لهم، بطريقة تستعيد الخطاب السياسي القديم الذي يجعل من الأكاذيب حقائق، ولا يحمل غير الثناء للزعماء!

لذلك أضحى التحدّي الأكبر للسياسيين المعاصرين، إتلاف الفكر السياسي وقدرته على التحريض والإقناع وليس العمل السياسي من أجل إعادة الثقة بمفهوم الوطنية.

لقد طلب رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، من فريقه بعد أن فقدَ صبره في النهاية، “العثور له على عصا لمن عصى” بحسب أحد كبار الدبلوماسيين الأوروبيين. “وقد فعلوا ذلك”، هذه طريقة معاصرة للقمع الديمقراطي للمحافظة على الكيان الأوروبي من التمزق، لكن لسوء الحظ لا يمتلك السياسيون في عالمنا العربي مثل “تلك العصا القانونية” بل إنهم لا يريدونها أصلا، إنهم يديرون ميليشيات قاتلة في السر، ويقدمونها للشعوب كمنظمات خيرية مدنية! بينما مازالت القوى الأمنية تمارس سطوتها القمعية وكأن العالم لم يتغيّر.

لقد انتزع جيل فيسبوك وتويتر “صناعة الرأي” من السياسيين، التي كانت بمثابة القلب في جسم الدولة، وصار هذا الجيل يفكك التصريحات المتناقضة بالصوت والصورة، ويتهكّم عليها ممارسا أعلى درجات الإثارة الإخبارية، وهو أمر ليس ضارا عندما يتعلق بالعلاقة غير السليمة بين السياسيين والجمهور.

هكذا تضيع المبادرة من السياسيين في التأثير على عقول الناس، فلم تعد طريقة غسل الأدمغة تحمل مواصفاتها التلفزيونية البائدة بوجود فيسبوك وتويتر.

العصر الرقمي أفضل وقت لاندلاع حرب التأثير على الرأي العام وصناعة الرأي، وإعادة اختراق العقول، فلم تعد فكرة المرسل والمُستقبل كما كانت، ولم يعد بمقدور الحكومات الاطمئنان على دورها القديم، الذي يجعل الشعب يتملكه الخوف كلما أراد الاقتراب منه، ولم يعد التلفزيون يدار بيد الزعيم وحده، اليوم تتواجد ملايين التلفزيونات الشخصية تبث في مختلف الاتجاهات، تتقاطع وتتصارع وتصنع الحقائق والأكاذيب في وقت واحد وتجد لها من المريدين والمتعاطفين ما يفوق قدرة الحكومات على السيطرة عليها، وهذا سبب اقتناع دونالد ترامب رئيس أكبر دولة في العالم بعدم حاجته إلى التلفزيونات ووسائل الإعلام التقليدية، عندما يكون لديه عشرون مليون متابع على تويتر.

لذلك يطالب كارل بيرنستاين الصحافي والكاتب الأميركي الذي ساهم في كشف تداعيات فضيحة “ووترغيت”، بضرورة مقاومة خطر وقوع الديمقراطية فريسة للاستبداد والديماغوجية وحتى الإجرام من قبل القادة المنتخبين والمسؤولين الحكوميين. لأن حتى الديمقراطيات الكبرى ليست حارسا أمينا للحقيقة التي ينشدها الناس.