كرم نعمة يكتب لـ(اليوم الثامن):

عودة إلى سوينتون والصائغ

لندن

كان عليّ أن أعود إلى الاقتباس الشهير للصحافي والناشط العمالي الأميركي جون سوينتون (1829 - 1901)، وأنا أقرأ رسالة صديق قديم وصحافي يتقلد اليوم منصبًا مرموقًا في حكومة الإطار التنسيقي في العراق.
كتب لي ناصحًا وبود عهدته فيه منذ أن افترقنا قبل ثلاثين عاما “حبيبي كرم، لا أروع مما تكتبه في الثقافة والصحافة والموسيقى والحياة، لكنك تذهب أكثر مما ينبغي في مقالاتك السياسية، ومن يقرأها ولا يعرفك شخصيا يبدو له أنك تقف ضد وطنك العراق”!
وختم رسالته القصيرة على واتساب ناصحا بود أيضا أن استمر في مقالاتي عن مواقع التواصل والثقافة، وأتوقف عن غيرها كي لا أخسر القراء والأصدقاء بما أكتبه من مقالات تُنكل بالعملية السياسية في العراق.
لا أشك في دوافع صديقي القديم، وسبق وأن عبر عن إعجابه بما أكتب في مقال منشور له، لكن نصيحته “المخلصة” وفق التقويم المفرط بالتفاؤل أعادتني إلى مقالة سوينتون التي طالما تم اقتباس فقرات منها لوصف علاقة الصحافيين بطبيعة ما يكتبون، وأنهم سيتصرفون بحماقة لمجرد كتابة آرائهم الحقيقية!
يخاطب الصحافيين بقوله “لا يوجد أحد منكم يجرؤ على كتابة آرائه النزيهة” بيد أن سوينتون لا يمتلك الكثير من الأسباب للدفاع عن ذلك عندما يتعلق الأمر بجوهر الصحافة. وطالما تم التعامل مع كلامه المغالي وبأنانية شخصية عائدة له، بشكل عرضي عندما ينظر إلى تحدي الصحافيين للحكومات كشر مطلق.
في المقابل كان عليّ أيضا أن أستعيد شيئًا من تجربة الشاعر العراقي الراحل يوسف الصائغ، عندما يتعلق الأمر بالصحافة تحديدا وطبيعة ما أكتب. فالصائغ شيوعي عراقي وبقي هكذا، على الأقل بما يؤمن به، لكن في السنوات الأولى من الحرب العراقية - الإيرانية في بداية ثمانينات القرن الماضي كتب مقاله الشهير في جريدة “الثورة” آنذاك، عبّر فيه عن علاقته بالوطن. ولم يعرض يوسف عن عراقيته بعد احتلال العراق عام 2003، مع أنه كان يدرك “في زمن مثل هذا الزمان سينكرك الأهل والأصدقاء وتضيق عليك المنازل”.
وقال بعدها جملته الشهيرة في حوار مطول نشرته أثناء عملي الصحافي “جاءت الحرب ضد إيران.. أنا لا يدخل في عقلي حتى الموت أن يقف ماركسي مع الملالي.. أن يصطف مناضل مع عدو متخلف وضد بلدي.. هذا شيء لا يدخل في عقلي.. الكويت.. إيران أو غيرهما.. لم يكن عندي فكرة أن أكون مع صدام بقدر ما كان عندي هم أن يكون الحزب الشيوعي في الموقف الذي سيحاسب عليه التاريخ”.
عاش الصائغ بعد احتلال العراق وحيداً، ولم يجد له مكاناً في بلد محتل، فغادر البلاد إلى سوريا ليرحل هناك بعد عامين من صعود أول دبابة أميركية على جسر الجمهورية. كنت أتواصل معه، وحرضته على الكتابة، رغم يده المرتجفة، فكتب ما يُذكّر بأن يكون عليه الصحافي، وهو الشاعر قبل ذلك، متسقاً مع ذاته، مقالات أنصح صديقي الذي يتقلد منصبًا مرموقًا في حكومة الإطار التنسيقي بالاطلاع عليها “جمعتها في كتاب وصدر بعد وفاته بعنوان: يوسف الصائغ: تخطيطات وأفكار بصوت عال”.
باح الصائغ في مقالاته الصحافية قبل أن يمتص الموت رحيق أنفاسه الأخيرة بأسئلة عن الوطن وجراح التماثيل ودمها المراق في الزمن الديمقراطي الجديد، وعندما فجر “البرامكة الجدد” نصب أبوجعفر المنصور بدا مقاله أعلى من الصوت العالي، وأعاد الأسئلة الجريحة وهو يرثي خالد الرحال، وعندما تفاقمت الأسئلة الأخرى حول تأريخه لم يتنصل مما آمن به.
كذلك، أنا أيضا يا صديقي وأنت تكتب لي من المنطقة الخضراء، كصحافي مثل الصائغ يوسف وهو يكتب: أنا لا أبدلُ جلد وجهي، حين يُشتي الفصل/ لا أبداً وحقك/فالندوب به، ندوبي/ والجراحُ -سلمتَ- بعضُ ملامحي…