أزراج عمر يكتب:

عربة ذرية أهل الكهف

كلّما زرتُ بلدا أوروبيا غربيا فوجئتُ بالعشرات من المؤلفات الجديدة أو القديمة النادرة في حقول العلم المختلفة التي لفظتها المطابع، ويؤكد هذا أنّ النهضة في أيّ بلد مشروطة دائما ببعث الحياة في علاقة الإنسان بالعلوم والفنون والآداب والفلسفة، ومع ما يسمّيه ابن خلدون بالصنائع، وغير ذلك من العناصر التي تشكّل البنية الثقافية النظرية والعملية الكليّة في هذا المجتمع أو ذاك.

وفي الأيام القليلة الماضية حالفني الحظ حيث عثرت صدفة في إحدى مكتبات لندن على كتاب نادر يحمل عنوان “حول المعمار” كتبه معماري ومهندس عسكري روماني وهو فتروفيوس، الخبير أيضا في علم قوانين حركة القذائف الباليستية. لقد كتب فتروفيوس هذا الكتاب التحفة منذ أكثر من اثنين وعشرين قرنا وترجمه إلى اللغة الإنكليزية أستاذ الكلاسيكيات وتاريخ المعمار بمعهد الفن بمدينة لندن ريتشارد سكفيلد.

وتروي السير المكتوبة عن هذا الرجل بأنه لقد لعب دورا مفصليا في وضع أسس المعمار الروماني المتفرّد والذي يعدّه المؤرخون في العالم قاطبة من الركائز المحورية للحضارة الرومانية التي نجدها متجسّدة في كثير من أعماله التي تشمل تصميم ثم تشييد المسارح والجسور والطواحن والعربات ومختلف الآلات والبنايات العملاقة والحمامات والمنازل الحضرية والريفية وميكانزمات الساعات المائية وهلمّ جرّا.

إن ما نتعلّمه من هذا الكتاب ومن التكوين والنبوغ العلمي والفكري والفنّي لمؤلفه هو أنّ البناء الحضاري لا يقوم دائما على المُماحكة السياسية، وإنّما يتأسس على الفكر الخلاّق، هذا ويستنتج قارئه أنّ المعمار الروماني الذي أنجزه فتروفيوس هو نتاج للنظريات الرياضية والفيزيائية والموسيقية.

في سياق آخر قريب من إنجازات فتروفيوس وجدت كتاب طاوية الفيزياء للفيزيائي النمساوي الأصل والأميركي الجنسية فرتجوف كابرا، الذي كرّسه لدراسة نقاط الاتصال والتوازي بين التصوّف الشرقي وبين الفيزياء الحديثة، من أبدع المؤلفات الفكرية والعلمية التي تتقاطع فيها مختلف الحقول المعرفية، بالإضافة إلى كتابه المدعو نقطة التحوّل أو المنعطف وهو نقد للثقافة التقليدية التي تتمسك بالرؤية العلمية الميكانيكية.

وفي الواقع فإن المطابع في الغرب تقذف إلى الوجود بالمئات من الكتب التي تدرس مستجدّات شتّى أنماط العلوم المتطوّرة في عصرنا ولكن هذه المؤلفات تبقى تدور في الفضاءات الغربية وفي بعض الفضاءات الآسيوية القلية مثل الصين والهند، حيث نجد الوعي بضرورة استيعاب العلم والفكر المعاصرين ينمو ويتحوّل إلى عيد يومي في أوساط الباحثين وفي المدارس والمعاهد والجامعات وحتى في حياة المواطنين اليومية، أما نحن فمحرومون من كل هذا الزخم الثريّ وجرّاء ذلك فقد حكمنا على أنفسنا بالاستغراق في النوم في العربة الأخيرة من قطار التاريخ الإنساني المخصصة لنا نحن أبناء ذرية أهل الكهف.