كرم نعمة يكتب:

إمبراطورية فيسبوك في لائحة الدول المارقة

دعونا نُعِدْ قراءة المشهد بعين سياسية على اعتبار أن فيسبوك أكبر دولة افتراضية في العالم اليوم، هناك خلاف سياسي بمواصفات رقمية يمس أمن البلدان ويهدد ديمقراطيتها، لذلك شكلت رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي لجنة مهمتها تقديم خلاصة عن قوة فيسبوك السياسية وتداعيات تأثير محتواه على الديمقراطية.

فيسبوك لم يتصرف كدولة محترمة مع طلب اللجنة البريطانية الإجابة عن أسئلتها، وتصرّف وفق وصف صحيفة الغارديان بـ“قوة متعجرفة”، الأمر الذي دفع داميان كولنز رئيس لجنة الإنترنت والثقافة والإعلام والرياضة في مجلس العموم، إلى وصف مارك زوكيربرغ بالشخص غير المسؤول الذي يجلس على رأس واحدة من أكبر الشركات في العالم، عندما ازدرى اللجنة البريطانية برفضه الإجابة عن أسئلتها، وبعث بممثلين عنه ليست لديهم معلومات كافية للإجابة عن الأسئلة. “من المقرر أن يكون زوكيربرغ التقى كولنز أمس”.

ألم تحدث حروب بين بلدان من قبل بسبب هذا النوع من الازدراء السياسي والتعجرف الذي أبدته شركة فيسبوك؟ ثم من قال لا توجد حرب اليوم تحركها شركات التكنولوجيا الكبرى!


لقد رُفعت المعاول من أجل تهديم معبد فيسبوك على مشيديه، فهو مصدر يعرّض “الديمقراطية” للخطر باستهداف خبيث ودؤوب لمواطني الدول الذين يعانون عبر إعلانات مضللة ومن مصادر غير محددة، يتم تقديمها من خلال منصات وسائط التواصل الاجتماعي.

انتهى الوقت الذي تكظم فيه الدول غيظها من السطوة المثيرة لشركة فيسبوك، فالشاب مارك زوكيربرغ لا يمتلك خبرة وحنكة هلموت كول مثلا أو خضوع غورباشوف، مع ذلك يقف على قمة جمهورية الملياري مستخدم!

قدمت اللجنة البريطانية تقريرها المكون من مئة صفحة واصفة فيسبوك بقوة سوقية هائلة تتمكن من كسب المال عن طريق التنمر على شركات التكنولوجيا الصغيرة والمطورين الذين يعتمدون على هذه المنصة للوصول إلى المستخدمين، وتتصرف بطريقة “العصابات الرقمية” في عالم الإنترنت.

وطالبت اللجنة بتحول جذري في ميزان القوى بين المنصات والجمهور من أجل إنهاء عصر التنظيم الذاتي غير الكافي، والتشديد على حقوق المواطن، من خلال إرغام شركات التكنولوجيا الكبرى على الإلتزام بقواعد مدونة أخلاقية مكتوبة يضعها البرلمان، والإشراف عليها من قبل هيئة تنظيمية مستقلة.

لكن السؤال مازال مشرعا، عما إذا كانت هذه الشركات العملاقة توافق أم لا.

يرى داميان كولنز أن عصر التنظيم الذاتي للشركات العملاقة لم يعد مناسبا ويجب أن ينتهي، مطالبا بتعديل ميزان القوى بين تلك المنصات والرأي العام بشكل جذري، ومحذرا في الوقت نفسه من ترك الأمور من دون تشريع صارم لأن المعلومات المضللة على الإنترنت ستصبح أكثر تطوراً بمرور الوقت.

وقال “نريد أن تتصرف ضد هذا المحتوى. إنه ليس رأيا، بل أكاذيب واضحة تنتشر بشكل ضار ويجب إيقافها”.

حَزْمُ رئيس لجنة الإنترنت والثقافة والإعلام والرياضة في مجلس العموم البريطاني، متأتٍّ من القلق المتفاقم من الطريقة التي تتلاعب بها وسائل التواصل الاجتماعي بالمراهقين وجيل الألفية، لكن حقيقة المشكلة لا تكمن في فيسبوك وحده.

ماذا بشأن غوغل ويوتيوب وتويتر… في حشد بيانات المستخدمين من دون موافقتهم ونشر المعلومات المضللة التي لا يذكرها تقرير اللجنة البرلمانية البريطانية أسوة بشركة فيسبوك؟

علينا الاعتراف بأننا بتنا نبيع الأفكار السياسية والدينية والترويجية في العالم الرقمي بنفس طريقة تسويق الأحذية في الأعياد، ولو تسنى لدينس هيلي وزير المالية البريطاني عام 1979، أن يعيد اتهامه لأعضاء حزب المحافظين بأنهم صاروا يبيعون السياسة وكأنها مسحوق صابون، لمجرد مشاهدته لوحة إعلانية كتب عليها “حزب العمال فاشل”، فماذا سيقول اليوم وسط تدفق الهراء السياسي والأكاذيب الشنيعة على مواقع التواصل الاجتماعي؟

النكبة أن كلفة شراء هذه المعلومات الخاطئة في العصر الرقمي أرخص بكثير من الأحذية، وأن الضرر الذي تسببه يفوق ضرر الحذاء الضيق، لكننا لا نشعر بضررها بنفس شدة الألم الذي يسببه الحذاء من أول ارتداء!

عندما انتشرت فضيحة فيسبوك وأن الشركة كانت على علم لسنوات باستخدام بيانات شخصية لحوالي خمسين مليون مشترك من قبل شركة كمبريدج أناليتيكا لأغراض سياسية، لم يبق هذا الأمر أجهزة الاستخبارات والحكومات في العالم مجرد مراقبة من دون أن تفعل شيئا. والتقرير البريطاني اليوم يرفع المعاول من دون تردد في محاولة لإيقاف ضرر أفكار المعبد قبل أن يجتمع العالم برمته على تحطيم فيسبوك لاحقا.

مع التقرير البرلماني البريطاني يصدر كتاب “الوقوع تحت تأثير زوكيربرغ”، لروجر ماكنامي الذي نشر بداية العام الحالي 2019، ليقدم رواية لاذعة عن الطريقة التي يعتقد فيها أن وادي السيليكون ووسائل الإعلام الاجتماعي قد ضلا طريقهما.

ماكنامي تكنولوجي مخضرم وداعم مبكر لزوكيربرغ، لم يتوقف عن مساندة النشطاء الذين يمارسون الضغط من أجل تغيير طريقة عمل التكنولوجيا بشكل جذري. وفي هذا الكتاب يُجادل بأن الوقت قد حان من أجل المزيد من تنظيم عمل تلك الشركات العملاقة.

من المفيد هنا استعادة المقترح المثير للانتباه لأحد الأكاديميين الذي طالب التعامل مع المواقع التي تنشر أخبارا مزيفة مثل التبغ! عبر إرغام شركات التكنولوجيا على وضع عبارة “تحذيرات صحية” على هذه المواقع، لكنه أغفل عن قصد -كما يبدو لي- التعامل مع المدمنين، لذلك تبدو فكرة الإقلاع عن فيسبوك، مفيدة للنقاش من أجل التخلص من الإدمان الرقمي قبل الأخبار الكاذبة.