صلاح السقلدي يكتب :

انفصام لخطابين متناقضين

يتحدث البعض ليل نهار بأنهم قد أصبحوا اليوم بالجنوب الحاكمين بأمرهم، ولا ينازعهم بهذا الحكم أحد ,وأنهم باتوا الممسكون بالأرض من تلابيبها بطرقاتها وشوارعها وأزقتها أيضاً.ولكن حين  يسمع بهذا الخطاب البسطاء والمتعثرون والمظاليم من الناس – وما أكثرهم- ويطالبون هؤلاء بمساعدة مالية أو إدارية تنتشلهم من هذا العناء والغلاء الذي يسحقهم بحقارة كل يوم، لا يترددون بالقول أن هناك حكومة مسئولة عنكم وعن مشاكلكم وحقوقكم، وأننا لا نملك شيئا لكم, ولا نقوى على مساعدة محتاج منكم ،ولا على رفع مظلمة عن مظلوم أو إقالة عثرة متعثر، فليس بيدنا مال ولا قرار، فهذه الأمور بيد الحكومة والشرعية .!

إذاً فنحن إزاء وضع  بل خطاب إعلامي متخبط  يتحدث فقط عن رُبع الحقيقة ويغرق بالوهم، ويكرس نفسه كل يوم حتى أوشك أن يصير حقيقة شعبية راسخة, والسبب هو أننا نقع في المبالغة المتعمدة واعتساف واغفال جزء كبير من حقيقة الواقع المعاش من خلال تفسيرنا  لحال الأوضاع تفسيرا وردياً ليتوافق مع ما نأمله وليس مع ما نراه فعلياً، وتفسيرا قاتماً حين بوجه الآخر..

فنحن على كل حال ضحايا لسطوة إعلام مخادع، وخطاب سياسي نخبوي مضلل ومضطرب يفترس براءة المتلقي من عوام الناس بلا رحمة , مما جعلنا لا ندرك الاشياء على حقيقتها، فمثلا نرى في  مفردة السيطرة على الأرض بأنها تعني دولة قائمة بشحمها ولحمها/ فيما هذه المفردة :" نحن مسيطرون على الأرض" لا تعني فقط المعنى الحرفي اللغوي للسيطرة ،بل أيضاً المعنى المجازي لها التي تشمل السيطرة بمعنى السيطرة المعنوية كامتلاك القرار والإرادة السياسية والوطنية. فالسيطرة على الأرض لا تختزل فقط بالسيطرة على نقاط التفتيش بالطرقات ومداخل المحافظات والجولات والشواطئ وغيرها من الأماكن، بل هي مفردة تمتد لتشمل أيضا المعنى المجازي ، أي التمكن من كل الارض" والدولة" بما فيها المؤسسات والمرافق وموقع صنع القرار السياسي والسيادي والإداري والمالي ، وإلا فالتموضع على نقاط الطرقات والجولات والمداخل الرئيسية – على أهمية ذلك طبعاً- دون امتلاك المؤسسات والمرافق وبالذات الإيرادية والسياسية والسيادية ليس أكثر من وضع مؤقت سمحت به الجهة \ الجهات لحاجة في نفسها\  الجهات التي بيدها كل أسباب التغيير والسيطرة" والحل والعقد، ونقصد الجهة \الجهات، سواء داخلية أو خارجية، و التي بيدها المال والقرار والقوة ، فهي التي ستسيطر على الأرض بكل جولة وزق بالوقت الذي سترى فيه ذلك مناسبا لها بمجرد قطع معاشات الجنود الواقفون على تلك النقاط والطرقات. وبالتالي فالسيطرة على الأرض لا تعني شيئا إن لم تقترن بالسيطرة على والمؤسسات والمنافذ والمواقع الهامة والوديات والحدود ومواقع صنع القرار السياسي ما شابه ذلك من المواقع الحيوية.

فالحديث عن استعادة الدولة - أية دولة كانت -  يظل شيئاً عبثيا أن لم تمتلك هذه الدولة أركانها  الثلاثة الأساسية: الارض والناس والسلطة السياسية.. فغياب أحدهم كافيا لأن يصبح الحديث مجرد تمنّـي وخداع.

وبالمقابل يقف على الضفة الأخرى طرف غارق بتناقضاته أيضا الى درجة الهلوسة والانفصام، وينطلق بتناقضاته هذه في كثير من الأوقات من باب المناكفة السياسية والتعريض بالطرف الثاني الذي تحدثنا عنه سلفا، حيث نسمع مفردات مقابلة تقول أن القوى الجنوبية و المجلس الانتقالي الجنوبي بالذات لا حول لهم ولا قوة وأنهم ليسوا أكثر من ظاهرة صوتية ورجع صدى للأوهام والتمنيات، وأنهم  تحت أمر الحكومة التي هي الآمر الناهي، ورهن اشارتها، وبيدها كل ما يحلّي ويسلّي ويعشي الحمار- كما يقول اللبنانيون-.

وفي ذات الوقت لا يلبث هؤلاء المشرعنون على موقفهم حتى نسمعهم يقعون بنفس حفرة التناقض والاضطراب الإعلامي حين يطالبوا الانتقالي الجنوبي وكل من يعارضهم  بتوفير الرواتب والكهرباء والماء وعلاج الجرحى وتنظيف الشوارع وشبكة الصرف الصحي وكل ما يحتاجه الناس، وكأن مسئولية حكومة شرعيتهم مقتصرة فقط على النهب والفساد والسمسرة ،وإصدار قرارات التعيين والعزل والتوقيع على عقود بيع واستيراد النفط والغاز.