أزراج عمر يكتب:
لماذا دفن هذا الإرث الجميل
في عام 2005 ضيفني صديقي الراحل، الروائي واللغوي والمترجم والناشر، الدكتور سهيل إدريس ببيته ببيروت الذي يحتوي جزء منه على قسم مخصص لمنشورات دار الآداب والمجلة اللتين أسسهما منذ ستة وستين سنة.
أثناء جلستنا الممتعة كنت أسترق النظر، من حين إلى آخر، إلى الرفوف التي ازدحمت بكتب كثيرة كان قد ترجمها كل من الدكتور سهيل وزوجته وزملائه من الأدباء والمفكرين والدارسين والمترجمين العرب الذين كانوا يقيمون مع دار ومجلة الآداب صحبة فكرية وأدبية من الطراز الحضاري الرفيع.
سألت الدكتور سهيل إدريس عن السبب الذي حال بينه وبين إعادة طبع وتوزيع عشرات الكتب القيمة المترجمة من اللغات الأجنبية وفي صدارتها الفرنسية والإنكليزية والألمانية والصينية إلى العربية، فأشار باقتضاب إلى عاملين وهما غلاء تكاليف الطباعة، وقلَة إقبال القراء على الكتب الفكرية والأدبية الجادة مقارنة بفترات الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن العشرين التي شاهدت ازدهار التيارات السياسية والفكرية والأدبية، فضلا عن بروز شعر التفعيلة وتطور أجناس القصة القصيرة والرواية والنقد الأدبي والدراسات الفلسفية.
وبعد رحيل صاحب دار الآداب لم تطبع هذه المؤلفات المترجمة من جديد رغم أنها ذات قيمة أدبية وفكرية عالية. لاشك أن تحنيط وإخفاء هذا الإرث عن الأجيال الجديدة خسارة كبرى في حياتنا الروحية والثقافية الراهنة. ومن المؤسف أيضا أن مجلة الآداب، التي كانت مسرحا مفتوحا لتجارب الإبداع الشعري والنقد الأدبي والفكري والترجمة، قد أصيبت بالوهن الذي مس دورها التثقيفي الطليعي.
لا أحد ينكر أن دار الآداب قد مكنت المشهد الثقافي العربي من الاستئناس بابتكارات أقطاب أدب العبث ومسرح اللامعقول، وبمستجدات الفكر الوجودي لأقطابه أمثال جان بول سارتر، وسيمون دو بوفوار وألبير كامو، وكولن ويلسون، ومن التعرف على الثقافة اليسارية النقدية العالمية ورموزها حينذاك أمثال روجيه غارودي، وتشي غيفارا، وريجيس دوبريه، وجورج لوكاش، فضلا عن النماذج الإبداعية الطليعية من الأدب الياباني وآداب أميركا اللاتينية، وإيطاليا.
لم تكن دار الآداب وحدها في ساحة ترجمة الإنتاج الثقافي والفكري العلمي بل فقد شاركتها في هذه المهمة كل من دار الطليعة التي ركزت جوهريا على الفكر الفلسفي والتحليل النفسي والدراسات السياسية الراديكالية، ودار العودة التي قامت بإصدار مجاميع الشعر التفعيلي للشعراء الرواد وللجيل الشعري التالي عليهم وقدمتها للحركة الثقافية من المحيط إلى الخليج، وهناك أيضا دور نشر أخرى في مصر والعراق والكويت لعبت دورا بارزا في ترجمة الكتب الأجنبية، ونتساءل الآن: لماذا دفن هذا الإنتاج ولم نعد نرى له أثرا في بلداننا؟