كرم نعمة يكتب:

الكمبيوتر معلم صبور بحاجة إلى الحياد

كان يعد أشبه بمعلّم صبور لا يتذمّر من الأسئلة الساذجة، على الرغم من حجمه الكبير آنذاك، هكذا كان يوصف الكمبيوتر الجهاز النادر والعجيب، لذلك أطلقت مايكروسوفت أجمل شعاراتها الترويجية وهي تروج لنظامها التشغيلي بـ”المعلومات عند أطراف الأصابع”.

الكمبيوتر لم يكتف بوظيفة واحدة مسماة، إنه يتجدد بشكل دائم ويتكيّف مع وظائف حميدة وأخرى شريرة كثيرة! مثل أي آلة يمكن استخدامها في أعمال الإنتاج الخيّر لمنفعة المجتمع، أو تحويلها إلى أداة للقتل. وهكذا أصبح هذا الجهاز الذي اختصر الجغرافيا بمساعدة شبكة الإنترنت، أداة مساعدة للتعبير عن تفوق الإنسان مثلما أسهم في التعريف بغطرسته، لأنه يمنح أحساسا بحرية غير مسؤولة ولا حدود لها، لكنها في الوقت نفسه حرية محفوفة بالمخاطر، حوّلها الكثير من الناس إلى عبث مستمر.

فانخفاض تكلفة استخدام أجهزة الكمبيوتر لاتخاذ قرارات تمسّ حياتنا، وضع يتخذه البشر لدفع الشركات والهيئات العامة لأن تطرح أنظمة مماثلة على نطاق واسع. حسب تعبير مادهو ميتامورجيا في صحيفة فايننشيال تايمز.

ولن يحمل الأمر أي مفاجأة عندما نعرف أن طموحات وخطط الشركات التكنولوجية بأن ينتقل العالم من نحو 27 مليار جهاز متصل بإنترنت الأشياء في عام 2017 إلى أكثر من 40 مليار جهاز بحلول عام 2020. وعلينا عندها أن نتخيّل ما يترتب على ذلك.

اليوم نحن نعبّر عن أنفسنا بما نملكه من كمبيوترات وأجهزة ذكية، ولا يكتفي هذا التعبير بتعريفنا للآخر بل يكشف عن تشويه وكراهية ورغبة في القضاء على الأخر وتدميره لمجرد انه لم يعجبنا في ما يقول وفي ما يتصرف.

إثر مقال سابق لي تلقيت ردود فعل غاضبة ومتشنجة، أغلبها لم تناقش أفكار المقال، بل عبّرت عن كراهية مجردة لما كتبته، فقلت حينها من حسن حظي أن التقنية لم تتطور بعد إلى درجة أن من عبّروا عن كراهيتهم لي بشأن ما كتبت، لم يتسن لهم إطلاق شحنة كهربائية لقتلي مع الآراء التي وصلتني عبر المنصات الاجتماعية. فهذا السلاح في العصر الرقمي ما زال غير متاح إلى اليوم! لكنه سيكون متاحا لسوء حظ الإنسان.

فهل ارتكب اليوم الكمبيوتر جرائم قتل بيد مستخدميه؟

لقد أظهرت الاختبارات أن البيانات الفاسدة على الإنترنت من شأنها أن تؤدي إلى نتائج فاسدة تؤثر بشكل مؤذ على قطاعات واسعة في المجتمع لا تقلّ خطرا عن عملية القتل.

وليس بمقدور أكثر الأنظمة الرقمية تطوّرا أن تجعل من الكمبيوتر وبالتالي الإنترنت وسيلة محايدة. لذلك تجرّب شركة غوغل اليوم أمثلة مضادة تسمح للمستخدمين بالتلاعب بالمتغيّرات، مثل تبديل الإناث بالذكور، لترى ما إذا كانت ستغيّر النتيجة.

في حقيقة الأمر، المشكلة لا تكمن في الاستخدام الشرير وحده للتجربة الحية التي منحها الإنترنت للبشرية، بل بالشركات الكبرى التي تستثمر بيانات الأشخاص من دون موافقتهم في استثمار تجاري يدرّ عليها الأموال الضخمة.

صار الكمبيوتر أداة بيدنا لتعرية أنفسنا عبر الكشف عن خصوصياتنا وكلّ ما نملكه للشركات بطيب خاطر، وأداة أخرى لشنّ هجمات الكراهية وتدمير الآخر.

يشك ريتشارد إيبنك، المدير القانوني لاتحاد الحريات المدنية الأميركية، بقدرة المتخصصين والمستخدمين على فهم تلك الأنظمة التي نتعامل معها بطيب خاطر في أجهزتنا الذكية ويقول “لا أحد يفهمها، وهم يعتقدون أن شخصا آخر قد يفهمها. في النهاية نحن نثق بها”.

وتشرح المحامية ساندرا واشتر، الباحثة في الذكاء الاصطناعي في معهد أكسفورد للإنترنت، هذه الفكرة بالقول: تبدأ علاقتك مع الأنظمة الرقمية عند تغذيتها ببياناتك التاريخية، أو متغيراتك أو بياناتك الإحصائية، وتتوصل إلى ملف شخصي أو نموذج، لكن ليس لديك أي فهم بديهي لما تتعلمه الخوارزمية فعليا عنك.

وتقول “بالطبع يمكن أن تعطي الخوارزميات نتائج غير عادلة، لأننا ندربها على بيانات متحيّزة في الأصل عبر القرارات البشرية. لذلك من غير المستغرب أن يحدث ذلك”. وتطالب الكاتبة البريطانية جيليان تيت بإعادة التفكير في الفئات التي نحاول تثقيفها عبر الإنترنت. وتقول “نعم، من المهم تحذير المراهقين بشأن التلاعب السيبراني، على أنه يجب علينا أن نتذكر أن نراقب أجدادهم أيضا”. لأن هناك الكثير من التساهل يجب التخلّص منه.

ما ينتظرنا من إنترنت الأشياء يمثّل خطرا اجتماعيا بقدر فائدته التكنولوجية المترقبة، مع تحذيرات من أن صعود إنترنت الأشياء سيعمل على إيجاد جبهة جديدة ضخمة من عوامل الضعف والخضوع وانعدام الخصوصية، ما لم يتم التعامل بجدية مع أمن “أسرة نومنا ودواليب ملابسنا” المتصلة بالإنترنت مثلا، من قبل كل من الشركات المصنّعة والمستخدمين.

لا تزال هناك أسئلة عميقة بلا إجابة بشأن ما إذا كان ينبغي لشركات تصنيع أجهزة إنترنت الأشياء أو مستخدميها تحمل المسؤولية عن ضمان الأمن؟ فالكمبيوتر لم يعد الجهاز الوحيد في مستقبل حياتنا، سنكون مربوطين بأجهزة من غلاية القهوة إلى طاولة الكتابة إلى صنبور ماء الحمام وحتى أريكة الجلوس، سيمنحنا المستقبل رفاهية عالية في الخدمات، لكنه مستقبل سيطلق العنان لأن نكون تحت رحمة اللجام في معادلة الفارس والحصان!!