سمير عطا الله يكتب:

السودان ينقلب

عندما بدأت الاحتجاجات في السودان، قام عمر البشير بجولة على السعودية وقطر وسوريا. وبصرف النظر عما قاله في الدوحة عن السعودية، لأنه مضحك جداً، فإن خريطة الرحلة في حد ذاتها، أكدت أن «الرئيس المزمن» قد فقد حسن التوازن السياسي. شاهد الملايين يهتفون ضده في الخرطوم، فجاء يطلب الإنقاذ في الدوحة.
غريبة الحالة البشرية: البلد الذي أعطى سوار الذهب، أعطى عصا البشير. لا شيء أقنعه أن الصلاحية انتهت. لا أول مليون ولا ثاني مليون. ظل يراهن على المتغيرات: يوم يحالف أسامة بن لادن، ويوم يطرده. ويوم يؤوي كارلوس، ويوم يسلمه، ويوم مع حسن الترابي، وغداً يسجنه. كما سجن خصومه من قبلُ. لا شيء أقنعه بأن كفى. كفى. عندما تزوج من أرملة وزير دفاعه أقام عرساً حضره 10 آلاف مدعو في بلد متقشف، وفي بلد كثير الأحزان في دارفور، وكبير الفقدان في الجنوب، ويوزع معارضيه على المنافي والسجون. وعندما كان ينتقد كان يحمل عصاه ويرقص في وجه الجميع.
فقد البشير حس الفرق. لم يعد قادراً بعد 30 عاماً من الإدمان على الكرسي، على أن يفرق بين إنه رئيس وليس هو السودان. وإذ وقع تحت تأثير سيدة القصر في الخرطوم، لم يستطع أن يرى مئات آلاف النساء يهتفن في الشوارع بسقوطه. لقد جعل السودانيون لأنفسهم «سيدة أولى» أخرى عندما أخذوا يؤدون رقصة العزل خلف «الكنكدة».
ثمة الكثير من التشابهات في النهايات السياسية العربية: رجل يفقد العلاقة بالمنطق، ثم بالواقع، ثم بالمعقول. ومعه، أو من خلفه، ما سماه بيان عزل بوتفليقة: «عصابة» من المنتفعين. وما من متعظ. وما من دروس. وما من سوار الذهب يحترم نفسه وشعبه وجيشه. حتى الجزائر المحاذية، لم يتعلم منها عمر البشير. ولا ما قبلها. ولا من قبله. ومثل جميع الديكتاتوريين، أثبت أنه لم يعرف الشعب السوداني، ولم يحب سوى نفسه، ولم يرَ سوى نفسه. وبرغم خروج الملايين عليه، حتى في ظل الطوارئ، ظل متمسكاً بانتخابات 2022 كأنما هناك حق من يصدق ذريعة الانتخابات في البلدان المعذبة بقوانين الصفيح ومساخر الأقنعة الديمقراطية. أو كأنما ثلاثون عاماً من الاعتقالات والحروب، وفشل الحكم، وتردي الاقتصاد، وحدة البطالة، وسوء العلاقات مع الجوار، وسقوط العملة الوطنية، ورقاعة الفساد وصدأ المحسوبية، كلها لا تكفي.
مأساة عمر البشير أنه وضع نفسه في مواجهة مثال آخر. مثال الذهب. وها هو يسقط، مع عصاه، على وقع الرقص في الشوارع. الملايين الذين لم يدعهم إلى عرسه.