سمير عطا الله يكتب:
عاش ليروي كل شيء يدان عظيمتان تتصافحان
يبحث جلال أمين حوله في كل مكان عن أبطال يضمهم إلى سيرته. أبطال ليس بمعنى البطولة بل بمعنى صروف الحياة وتقلّباتها ونجاحاتها وخيباتها الكثيرة، وكيف تنطبع على سلوك البشر. وبعدما فتّش في العائلة عمّا يُروى عن شقيقته وأشقائه، توصّل به الأمر إلى «حمامة» وهو لقب الشغّال الذي عمل طويلاً في منزل آل أمين، يعيش على الفتات ويقتّر على نفسه من أجل أن يعيل مَن حوله، ولا يمتّع نفسه بأي عطلة أو نزهة خارج الدار. وعندما بلغ الخمسين من عمره، قُتل في ظروف غامضة وسرق القاتل «ثروة» حمامة وأرغفة عائلته جميعاً.
يخصّص أمين فصلاً يروي به حكاية رفيق الطفولة الدكتور نبيل العربي من دون أن يسمّيه، إنه ذلك الصبي الذي حلم صغيراً بأن يصبح سفيراً ذات يوم. فإذا به يصبح سفير مصر لدى الأمم المتحدة، ووزيراً لخارجيتها، وأميناً عامّاً للجامعة العربية، وقاضياً في المحكمة الدولية، ومؤلفاً بارزاً في شؤون الدبلوماسية. ولكي يحصّن أمين نفسه ضدّ ردود الفعل من أصدقائه، لجأ غالباً إلى لعبة التعمية وعدم ذكر الأسماء. إنها لعبة تمنحه الحرية في شفاء غليله من هفوات الآخرين، وخصوصاً من أولئك الذين اختاروا المدائح للمسؤولين والنافذين، بينما تمنّع هو عن ذلك. ونادراً ما نراه معجباً بأحد دون تحفّظ أو استدراك. وفجأة يطلّ بين رفاقه وجه الطيب صالح، ضاحكاً، آسراً، وناثراً الطيب البشري من حوله. وبلا تسمية أيضاً ينتقل إلى المفكّر الماركسي الشهير الدكتور أنور عبد الملك. ويصارحنا على الفور بأن إعجاب الناس بعبد الملك كان بلا مبرّر، وأن الرجل لم يكن يتمتّع بالمستوى الفكري الذي قيل عنه، وربما عادت شهرته إلى أن أكثر الناس لم يفهموا ما كتب، خصوصا أن معظم كتاباته كانت باللغة الفرنسية.
وسط غابة النقد هذه تبدو هنا وهناك لوحات إنسانية تنمّ عن حقيقة المشاعر عند جلال أمين. ولا شك أن عاطفته الأولى وإعجابه الأكبر كان بوالده وأصدقائه أيضاً. يروي: «عندما دخل أبي لإجراء عملية خطيرة في عينيه، استلزمت رقاده شهراً دون حراك، وهو مغمض العينين، زاره طه حسين، وقد وصف أخي حسين في فصل له عن طه حسين (في كتابه: «شخصيات عرفتها» دار العين للنشر، 2007)، المنظر الذي جمع الرجلين في حجرة أبي بالمستشفى، رجل مغمض العينين والآخر ضرير، وصفاً مؤثراً فكتب: يدخل طه حسين حجرة المستشفى يقوده سكرتيره فريد شحاتة من ذراعه، وإذ يسمع أبي، وهو معصوب العينين، صوته، يمدّ يده في لهفة في اتجاه الصوت. فأمسكُ أنا بيد والدي، ويمسك فريد شحاتة بيد طه حسين، حتى تلتقي اليدان ويتصافحان».