محمد قواص يكتب:
العرب ليسوا في حسابات صفقة ترامب مع إيران
من يستمع إلى اللغة الحنونة التي استخدمها الرئيس الأميركي دونالد ترامب متوجها إلى إيران، يتخيّل أن من أعطى الأوامر بإرسال حاملة الطائرات “أبراهام لنكولن” والقطع البحرية المرافقة، ومن دعم الحملة البحرية بقاذفات منها تلك الاستراتيجية B52، هي جهة أخرى داخل الإدارة في واشنطن.
تحدّث ترامب عن تفاوض مع طهران وعن دعوة للتواصل معه وعن توق لتعاون أميركي مع إيران تستعيد من خلاله قوة اقتصادية عالية. تحدث الرجل بما يجيده كرجل أعمال، وهو يهوى عقد الصفقات وتسجيل الإنجازات. وعليه فيمكن التسليم بأن خيار واشنطن العسكري وإثارة مستشار الأمن القومي، جون بولتون، لمعلومات تكشف خططا عدائية إيرانية ضد مصالح أميركية في المنطقة، ليست خيار ترامب، وأن الأخير ينتظر فعلا اتصالا إيرانيا لتخليصه من عبء عسكرة بشَّر بإنهائها قبل أن يُنتخب رئيسا.
الخلط في الإشارات الصادرة من واشنطن، بين ما هو عسكري ينذر بالصدام الكبير، وبين ما هو سلمي يتوق إلى “اتفاق استراتيجي” جديد، يشجع طهران على عدم القيام بالخطوة المنتظرة. فإذا ما كان ترامب، ولدواعي تتعلق ربما بطموحاته في رئاسيات بلاده العام المقبل، مستعجل على إبرام صفقته الإيرانية، فإن طهران ما زالت تمتلك الوقت لحياكة سجادتها، خصوصا أن تراكم القطع البحرية الأميركية على مقربة من الشواطئ الإيرانية يحاصر أي معارضة داخلية سيسهل اعتبارها مشبوهة متعاملة مع الأعداء.
على أن الدعوة الأميركية لاتفاق جديد يحوّل إيران إلى دولة “عادية”، يكتنفها كثير من التبسيط والسذاجة، على النحو الذي يلقي بظلال من الشك حول حقيقة ما ترومه واشنطن من طهران. فالجمهورية الإسلامية لم تقم عام 1979 لكي تتحول إيران إلى دولة عادية. وأي تراجع عن القماشة الحالية لدولة الولي الفقيه في بعدها العقائدي والفقهي والمذهبي، يؤدي، في عرف نظام طهران، إلى سقوط النظام والجمهورية والفقيه وولايته.
وعلى هذا فإن تغيير سلوك النظام هو معادل لتغيير النظام نفسه. وما البرنامج النووي وذلك للصواريخ الباليستية في إيران إلا تفاصيل تقنيّة لخيار استراتيجي يملي على النظام هذا السلوك. وبالتالي فإن طهران التي قد تذهب يوما، وربما قريبا، إلى طاولة المفاوضات، ستطرح برامجها التقنية تلك للتفاوض على أمل أن تجد لدى واشنطن وحلفائها، وحتى خصومها، ما يعيد تموضع تلك البرامج داخل قراءة جديدة لا تقلق العالم عامة وإسرائيل خاصة، على ألا يفرض الأمر على طهران تغييرا لسلوك تحتاجه مشروعية “الثورة الإسلامية” وبقاء منظومتها.
لن يتغير سلوك النظام الإيراني من خلال العقوبات الاقتصادية مهما كانت قاسية و”تاريخية”، حسب زعم ترامب وإدارته. ولن يتغير سلوك النظام من خلال تحركات شعبية داخلية خبرت طهران التعامل معها واحتواءها. بمعنى أوضح لن يتغير سلوك النظام وفق نسخ “الربيع العربي”، وحتى وفق تلك المستحدثة التي تشهدها الجزائر والسودان هذه الأيام. فإذا ما حدث هذا التغيير في الدول المجاورة لإيران (أفغانستان والعراق) بالطريقة التي نعرفها، فإن أي تغيير للسلوك الإيراني لن يحصل إلا بالقوة القهرية وحدها.
لا أحد في العالم يريد ذلك. حتى في واشنطن يرددون ويكررون أنهم لا يخططون لذلك. يخاف أهل المنطقة هذا السيناريو الذي يعانون من نموذجه في العراق وأفغانستان. ولن يحظى هذا الخيار، هذا إذا افترضنا أنه موجود، بأي رعاية غربية على منوال تلك الرعاية التي حظيت بها عمليتا العراق وأفغانستان. وفق هذا الواقع وهذه الحقيقة تدرك إيران أن لا خطر داهما ولا عجالة تستدعي الارتباك.
ربما على الدول العربية، خصوصا تلك القريبة من إيران والمُستهدفة مباشرة من سلوك طهران، أن تقرأ بشكل آخر كتاب التصعيد العسكري الذي تدفع به الولايات المتحدة صوب مياه الخليج. هدف هذا التصعيد أميركي لا علاقة له بمستقبل أمن المنطقة. تجتمع أوروبا مع الولايات المتحدة على منع إيران من امتلاك السلاح النووي، أولا حرصا على تفوق إسرائيل في هذا المجال، وثانيا لأن برنامج إيران للصواريخ الباليستية بات يهدد بلدان الاتحاد الأوروبي، خصوصا إذا ما اكتملت أخطار المسافة التي تقطعها تلك الصواريخ بقدرتها على حمل رؤوس نووية. فإذا افترضنا أن المفاوضات “الحتمية” المقبلة ستعدم سلاح إيران النووي وتقصّر من مجال رمي صواريخها، فإن واشنطن وعواصم أوروبا، وحتى بكين وموسكو، لن تكون مهمومة بضبط سلوك طهران داخل العالم العربي.
هل هذا يعني أن الحملة العسكرية الأميركية ليست جادة؟ طبعا لا. إدارة ترامب، بأجنحتها العسكرية والأمنية والدبلوماسية، تحشد قواها لتصعيد الضغط على إيران. إدارة ترامب تحتاج لتحقيق إنجاز استراتيجي مفصلي خلال الوقت الذي تريده واشنطن وليس طهران. وفي الدفع بالورقة العسكرية من قبل واشنطن ما يضع ترامب وإدارته في موقف لا رجعة عنه إلا بتحقيق ذلك الإنجاز حتى لو استدرج الأمر احتكاكا عسكريا متعمدا من قبل أحد الأطراف، أو لعبت الصدفة دورا في إشعال فتائل الحرب.
غير أن جدية الجهد الأميركي، والذي قد يحظى بتعاون أوروبي وتواطؤ روسي صيني، هدفه تحقيق أجندة واشنطن وإدارتها، بما يتناسب ويتوافق مع مصالح الدولة العميقة في الولايات المتحدة، ويخدم أجندة ترامب الشخصية داخل سياق الصراع السياسي الداخلي، لاسيما ذلك المرتبط بانتخابات عام 2020.
وفي مراقبة الفعل ورد الفعل، وتأمّل مسار رحلات وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، حتى في شقه العراقي، ما يؤكد على المنحى الأميركي الخالص لمسعى واشنطن، على نحو لا يأخذ بالاعتبار ما يريده أهل المنطقة وما يطمحون إليه داخل احتمالات الحرب والسلم مع إيران.
وفي الخطاب الودي الذي يوجّهه الرئيس ترامب لإيران، المفترض أنها دولة راعية للإرهاب في العرف الأميركي، ما يؤكد أن واشنطن تسعى لتفاهم ثنائي يستعين بهمّة الأصدقاء وتواطؤ الخصوم لتحقيقه.
وفي ثنايا الصفقة الثنائية ما يهم ترامب وما لا يهم الآخرين. والمستغرب أنه في عزّ هذا التصعيد الذي بدأ الخليجيون يدفعون أثمانا له في مصالحهم، تقف المنطقة العربية متفرجة متأملة لتفاصيل تتصاعد يوميا في المحيط القريب، شأنها في ذلك شأن دول العالم في واقعها البعيد.
“سلوك إيران”، هو ما يهمُّ دول المنطقة من ضمن أي اتفاق قد يبرمه ترامب مع هذا النظام بعينه في إيران.
عمليا فإن دول المنطقة تملك من الأسلحة ما يمكّنها من ردع إيران وصواريخها المفترضة. وعمليا، وقد يبدو الأمر مفارقة، فإن دول المنطقة غير معنية مباشرة بامتلاك إيران للسلاح النووي، فذلك لن يغير من المعادلة الأمنية الاستراتيجية التي تهم دولاً، كروسيا والصين والولايات المتحدة وإسرائيل، أكثر مما يهم العرب الذين يتعايشون في منطقة تصلها أسلحة إسرائيل والهند وباكستان والدول الكبرى النووية.
وعليه فإن على العرب أن يكونوا شركاء كاملين يحملون نسخة جديدة من القواعد والشروط التي تتجاوز شروط بومبيو الشهيرة. ولئن سبق لترامب وفريقه أن أثارا مسألة روحية الاتفاق النووي الذي تخترقه إيران، فإن على العرب أن يفرضوا أجندتهم بحيث تفقد أي صفقة مقبلة وجاهتها وروحيتها دون موافقة دول المنطقة على بنودها.
ما يجري حاليا بين عواصم العالم هو التقاطع حول صيغة الاتفاق الدولي المقبل والحتمي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي لا خطط لإسقاطها. قد تبرم العواصم ذلك الاتفاق وتترك المنطقة لسلوك إيراني تمّ تعديله مع العالم البعيد ويخضع لوجهات نظر مع ذلك القريب.