أزراج عمر يكتب:
هل غابت النخب الفاعلة عن الحراك الشعبي الجزائري
في الكلمة التي ألقاها يوم الاثنين الماضي فاجأ نائب وزير الدفاع الجزائري ورئيس أركان الجيش الشعبي أحمد قايد صالح الجميع بقوله بأن هناك “غيابا ملحوظا للشخصيات الوطنية وللنخب وللكفاءات الوطنية أمام ما تعيشه البلاد من أحداث وتطورات متسارعة، تستوجب تقديم اقتراحات بنّاءة من شأنها التقريب بين وجهات النظر المختلفة”.
ماذا يعني قايد صالح بهذا التصريح بعد أن اتضحت الخلافات الحادة بينه وبين الحراك الشعبي خاصة في ما يتعلق بالحل المنشود للأزمة الجزائرية، حيث يرى هو أن تطبيق الدستور هو الحل، أما القطاع الواسع من الشعب الجزائري والمشاركين في مسيرات كل يوم جمعة فيطالبون بإقالة المجموعة المحسوبة على مرحلة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة وفي المقدمة الرئيس الحالي عبدالقادر بن صالح والوزير الأول نورالدين بدوي وحكومته التي عيّنها بوتفليقة نفسه كمقدمة للانفراج السياسي؟
إن التأويل الحرفي لتصريح رئيس أركان الجيش الجزائري يعني أن الجزائر لا تملك الشخصيات والنخب القادرة على قيادة البلاد في هذه اللحظات الحرجة بالذات وبعد التخلص من العصابة، ويعني أيضا أن النخب والشخصيات التي يعوّل عليها أن تكون بديلا إيجابيا لفلول جماعة عبدالعزيز بوتفليقة ولكافة الطاقم البشري لعصابة النظام الجزائري، لم تنزل إلى الشارع لتقود وتوجه وتحاور وتطلق برامج العهد الجديد.
وفي هذا الخصوص انتقد الإعلامي الجزائري أسامة يفرح سلبية بعض عناصر الحراك الشعبي بقوله “بمجرد أن تحدث قائد الأركان عن غياب النخبة والكفاءات، انتفض البعض وقاموا وندّدوا وانتقدوا، مع أنهم لم يقدروا على تنظيم لقاء ناجح واحد بينهم للخروج بخارطة طريق واضحة المعالم، ما عدا رسالة ضعيفة، ولذلك لا تنظر إليهم المؤسسة العسكرية على أنهم نخبة أو قوة”.
وفي الحقيقة فإن التحليل الدقيق لمضمون كلمة أحمد قايد صالح، التي ورد فيها هذا المقطع الذي أكد فيه غياب النخب والشخصيات من الساحة الوطنية في هذه اللحظات التاريخية التي تشكل أوج مسيرات الحراك الشعبي في كل أنحاء الوطن، يمكن أن نستنتج منه بأنه ليس مجرد موقف شخصي ينفرد به، وإنما يوحي بأنه تعبير غير مباشر عن موقف منظومة الجيش الشعبي الجزائري وقياداته.
وإذا كان الأمر هكذا فذلك يبين لنا أن الفضاء الجزائري عقيم، حيث لم ينتج طوال سنوات الاستقلال الكفاءات التي تشكل ما يعرف في الأدبيات السياسية والفكرية بالشخصيات الوطنية والنخب المفكرة والمسيرة للدولة.
في هذا الخصوص ينبغي فهم قراءة هذا الوضع على أساس أن النظام الجزائري الحاكم منذ حكم الرئيس الأسبق أحمد بن بلة حتى اليوم لم يحاول أن ينشئ المؤسسات التي تنتج وتنظم النخب، وبالعكس فإن الحكم الفردي المرتكز على هيمنة العسكر والأجهزة الأمنية كان السبب الجوهري في عدم توفير المناخ الذي تنشأ فيه النخب التي تفكر وتسيّر شؤون الدولة جماعيا، وذلك في إطار المجتمع المدني الحر والمؤطر بالأحزاب الوطنية الديمقراطية.
وفي الحقيقة فإن هذا الحراك الشعبي الجزائري قد تميز بخاصية فسيفسائية يمكن النظر إليها كإعادة إنتاج لمختلف طبعات فسيفساء الحياة السياسية الجزائرية منذ الاستقلال حتى اليوم، سواء تعلق ذلك بفسيفساء حزب جبهة التحرير الوطني المكوّن من مختلف التيارات المتضادة، والحكومات التي حكمت البلاد، أو بفسيفساء أحزاب المعارضة وأحزاب الموالاة في مرحلة التعددية الحزبية الشكلية. وبالتأكيد فإن هذه الظاهرة هي التي تشكّل النواة الصلبة لأزمة الحكم في الجزائر، ومع الأسف فإن الحراك الشعبي بدوره لم ينجُ منها حتى الآن.
وفي سياق تحليل تصريح رئيس أركان الجيش الجزائري المذكور آنفا يرى المراقبون السياسيون أن تصريح قايد صالح يستهدف أمرين، يتلخص أولهما في قطع الطريق على مقترح وزير الخارجية الجزائرية السابق أحمد طالب الإبراهيمي وجماعته ومن يقف وراءه من قوى إسلامية معتدلة وأصولية، والذي دعا فيه إلى المرور بمرحلة انتقالية تمهد للانتخابات الرئاسية.
وثانيهما يتمثل في نقد غير مباشر للحراك الشعبي الذي يتمسك بالمسيرات كل يوم جمعة، ويطالب بإسقاط كل بنيات النظام الحاكم قبل التفكير في آليات الحوار مع أي كان.
وفي الواقع فإنه من الصعب حسم هذا الوضع المعقّد في ظل هذه المواقف المتباينة وفي مناخ عجز الحراك الشعبي عن تشكيل قيادة تتكوّن من شخصيات وطنية كاريزمية لها مكانة في الوجدان الشعبي، وتتمتع بقيمة سياسية وفكرية مضافة تخول لها أن تلعب دورا محركا ومستقطبا لكل المؤمنين بالتغيير السلمي لبنيات النظام الحاكم كضرورة حتمية، وأن تنجز مهام توفير الأسباب المادية والنفسية التي تمكَن من الوصول بالبلاد إلى بر الأمان.
وهنا نتساءل: لماذا لم تتمكّن الجزائر من صنع النخب والشخصيات المدنية التي يعوّل عليها في التغلب على الأزمات وتجاوزها، وخلق البدائل التي تؤسس لبناء النهضة الوطنية فكريّا وتربويّا وزراعيّا وتكنولوجيّا وسياسيّا؟
في الواقع فإن المشكلة الكبرى التي ما فتئت تواجه الجزائر منذ الاستقلال تتمثل في شقين هما: غياب مشروع وطني طوال مرحلة الاستقلال يمكَن من تكوين النخب بشكل يسمح لها بقيادة الشعب والالتحام به والتعلم منه ومن بناء أسس الدولة العصرية.
وفي محاربة النظام الجزائري لكل المبادرات والجهود الرامية إلى تأسيس وتفعيل المجتمع المدني الحقيقي والمستقل، فضلا عن ممارسة هذا النظام لعمليات شراء ذمم الرموز الوطنية التي تبرز هنا وهناك.
ولقد ساهم كل هذا في إجهاض ولادة القيادات المدنية المشبعة بالفكر العصري في مختلف الميادين على المستوى المركزي وعلى مستوى الجزائر العميقة. ولقد أدى هذا ولا يزال يؤدي إلى تضييع فرص تشكيل الهياكل التنظيمية وإنتاج الخطابات السياسية المتطورة ورسم البرامج الاقتصادية والثقافية والفكرية التي توفر المناخ للنهضة.
والأدهى والأمر هو أن دخول المجموعات الانتهازية في دواليب الدولة قد ساهم بقوة في تكريس بنية النظام المستبد في الجزائر. على أساس كل هذا ندرك لماذا لم تتشكّل مرجعية تنظيمية موحدة للحراك الشعبي، ولماذا اخترقت صفوفه بعض أنماط الممارسات الانتهازية فضلا عن الولاءات المضمرة والانتماءات الأيديولوجية والسياسية والإثنية المتباينة والهشّة التي تسم المكوَن البشري لهذا الحراك.
ولا شك أن لهذه الظواهر أسباب قديمة – جديدة منها إلحاق الهزائم الاجتماعية والاقتصادية والنفسية بمختلف أصناف الأساتذة والأطباء والمهندسين والإعلاميين وغيرهم. فضلا عن تبخيس نخب المثقفين بكل تشكيلاتهم وأنماطهم من طرف المتحكمين في المشهد السياسي الجزائري، إلى جانب إلحاق تنظيمات المجتمع المدني بأجهزة النظام الحاكم منذ الاستقلال إلى اليوم، وتحويلها إلى قطعان تابعة ومطيعة للنظام الحاكم الأمر الذي جرّدها من الفاعلية وجعل الشعب لا يثق فيها ويعاديها غالبا لأنها لا تمثله.