محمد قواص يكتب:
إيران لا تفاوض واشنطن.. إيران تفاوض تل أبيب
لا تريد إيران التفاوض مع الولايات المتحدة. بالمقابل يقبل حزب الله، من خلال الدولة اللبنانية، التفاوض مع إسرائيل، وبرعاية الولايات المتحدة نفسها. تكابر طهران في مقاربة أزمتها مع دول العالم الكبرى (بما في ذلك مع روسيا والصين)، غير أن قنوات التواصل، المتعددة النوافذ، تنشط في الإعداد لليوم الذي تنبسط فيه طاولة المفاوضات، وفق ما رسمها دونالد ترامب، ووفق الـ”ستايل” الذي أوحت به شروط مايك بومبيو الشهيرة.
من قنوات التواصل الخلفية هي تلك التي تجري في بيروت. شيء ما حصل قبل أسابيع أنزل “وحيا” على قصر بعبدا أملى استدعاء السفيرة الأميركية (9 مايو) لإبلاغها قرارا جديدا في شأن النزاع الحدودي بين لبنان وإسرائيل. لم يكن الرئيس ميشال عون ليتحرك ويبادر ويُعدّ ورقة تحدد خارطة طريق لإنهاء النزاع وإقفال ملف الحدود البرية والبحرية مع إسرائيل دون ضوء أخضر، وربما بطلب، من حزب الله.
اجتمع فجأة قبل ذلك (6 مايو) الرؤساء الثلاثة (عون ونبيه بري وسعد الحريري) تحت سقف قصر بعبدا. توافقوا على استراتيجية واحدة يقارب بها لبنان مسألة الحدود مع إسرائيل. قيل إن قرار الرؤساء الثلاثة اتخذ دون استشارة حزب الله. هذا ما قيل.
غير أن الرصانة واحترام العقل يستدرجان استنتاج أن الحزب بارك قرار بيروت ورعاه. صمتُ الحزب ومنابره ومحلليه يكشف عن تغطيته السياسية الكاملة لعملية تفاوض لبنانية إسرائيلية ستجري، مباشرة، بوساطة أميركية، ومشاركة الأمم المتحدة في الناقورة داخل مقرّ قيادة قوات حفظ السلام “اليونيفيل” في الجنوب.
استدعى عون سفيرة الولايات المتحدة في لبنان إليزابيث ريتشارد. سلمها الورقة-الخارطة التي أعدها. بدا أن سعادة السفيرة فوجئت بهذا التطور غير المتوقع بالنظر إلى مواقف بيروت السابقة. جالت على الرئيسيْن بري والحريري للتأكد من أن عون لا ينطق عن هوى، و”إن هو إلا وحي يوحى”، وبأن النظام السياسي اللبناني الذي يشتغل وفق ما يتّسق ولا يتناقض أبدا مع أجندة حزب الله، مجمع، ودون أن يرمش جفن تيارات الممانعة، على العبور نحو التسوية في ملف ساخن لطالما كان العذر المحوري لديمومة “سلاح المقاومة”.
عملت طهران ودمشق وحزب الله على تعطيل أي تدبير يتنافس مع وجود قوات الحزب وسلاحه في جنوب لبنان. منعت تلك القوى الجيش اللبناني من التموضع في جنوب لبنان بعد انسحاب إسرائيل من المنطقة عام 2000. برر الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله أمر ذلك آنذاك بأنه “حماية للجيش” المفترض به أن يتولى حماية الأرض والوطن. كان على الحزب أن ينصاع بالقوة بعد حرب 2006، ويقبل بأن يكون للقوات المسلحة الشرعية تواجد على حدود البلاد مع إسرائيل.
قبل ذلك أثار النظام السياسي الأمني اللبناني – السوري مسألة مزارع شبعا وتلال كفر شوبا لتبرير استمرار وجود “سلاح المقاومة”. أعاد حلفاء دمشق وطهران نبش كتب التاريخ ليعيدوا تعويم لبنانية تلك المناطق التي لطالما أغفلت بيروت المطالبة بها حين سطا عليها النظام السوري في الخمسينات، وألحقها وفق اتفاقيات فصل القوات عام 1974 بالجولان بما يشملها داخل نطاق عمل قوات الـ”أندوف” وليس الـ”يونيفل”. وسواء كانت تلك الأراضي لبنانية أو سورية، فإن المطالبة بها لا تستدعي سلاحا ميليشياويا خاضعا لإرادة طهران يعطّل العمل الذي يفترض أن تقوم به مؤسسات الدولة، العسكرية والدبلوماسية، لمقاربة هذا الملف.
قدم نصرالله سلاح حزبه بصفته الضامن لحقوق لبنان من النفط والغاز في منطقته الاقتصادية الخالصة. بدا أن تحوّلا كبيرا طرأ على خلفية التصعيد الذي تمارسه واشنطن ضد طهران. وبدا أن إيران تخاطب الولايات المتحدة من خلال بوابة إسرائيل العزيزة على قلب واشنطن وإدارتها ورئيسها. صدر ما يشبه المعجزة، أن فاوضوا وافتحوا سبل الوصل مع إسرائيل؟"
الأمر ليس تفصيلا عرضيا. خرائط كثيرة خرجت من خزائن العواصم الكبرى بالتناغم مع العزف الصاعق الذي خرج من بعبدا.
خرائط تتعلق تارة بصفقة القرن وورشتها الاقتصادية المقبلة في البحرين.
خرائط تتعلق بسوق الغاز الذي تتقاطع داخله دول المنطقة المعنية (مصر واليونان وقبرص ودول أخرى) كما الدول المعنية بإرسال شركاتها الكبرى في التنقيب عن النفط والغاز (روسيا، فرنسا، إيطاليا، الولايات المتحدة ودول أخرى).
خرائط تتعلق بمستقبل الوضع في سوريا ومسارعة الصين، مثلا، لإرسال شركاتها للتمركز في البقاع اللبناني استباقا لاستثمارات هائلة مرتبطة بخطط الإعمار المقبلة في سوريا.
الأمر جدي إلى درجة أن مساعد نائب وزير الخارجية الأميركي ديفيد ساترفيلد، الذي يعرفه لبنان واللبنانيون جيدا، جاء على عجل من واشنطن إلى بيروت (14 مايو).
فجأة توقفت تل أبيب عن جلد لبنان وحزب الله بالتهديدات. فجأة أفرجت إسرائيل عن مواقف إيجابية بشأن ملف النزاع الحدودي. فجأة يتحدث وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتز عما يحقق “مصالح البلدين في تطوير احتياطات الغاز الطبيعي والنفط”. فجأة بدا أن لبنان بات جزءا من الحل داخل النزاع الأميركي – الإيراني، بعد أن كان جزءا من المشكلة.
يفترض ترسيم الحدود مع إسرائيل عمليا أن ينهي الاشتباك مع إسرائيل. قبول ورعاية حزب الله لمبدأ التفاوض والاتفاق مع إسرائيل لتدبير ملف من شأنه إنهاء النزاع مع إسرائيل، يكشف المدى الذي بدأت إيران تذهب به في مداولاتها الخلفية مع الولايات المتحدة. العبور إلى حل النزاع الحدودي، هو عبور إلى السلم والانتقال إلى مرحلة الاستثمارات النفطية الكبيرة في مياه لبنان ومياه المنطقة، وإلى مرحلة الإعداد للورشة الإعمارية الكبرى في سوريا. مراحل كهذه لا تحتاج إلى سلاح حزب الله، ولا يمكنها التعايش مع هذه الظاهرة النافرة في نظام العلاقات الإقليمية والدولية المرتبطة بملفات الاستثمار الكبرى الملوَّح بها في المنطقة (الغاز، سوريا، صفق القرن).
لبنان نفسه بات داخل تلك الخرائط منذ مؤتمر سيدر الشهير. لم يكن ذلك المؤتمر تقليديا في مضامينه الحسابية. ظهر بعد ذلك أنه مؤتمر سياسي كبير يتجاوز واجهته الاقتصادية المملة. في روحية المؤتمر ما يرتبط بمستقبل لبنان ووظيفته وحدوده (مع سوريا أيضا) ودور جيشه، كما مستقبل سوق الطاقة الواعدة في مياهه، كما تموضعه المقبل داخل منتدى غاز شرق المتوسط (تشكل في القاهرة أوائل هذا العام). كان على لبنان أن يقر موازنة قاسية تضبط العجز في حدود 7.6 بالمئة، مع ما يسببه ذلك من غضب شرائح اجتماعية تستغرب تواطؤ كل الطبقة السياسية، بما في ذلك حزب الله، على فرضها.
تحدث ساترفيلد عن ضرورة اعتماد لبنان استراتيجية دفاعية تنهي ظاهرة حزب الله. لا يهم ما صدر وسيصدر عن لبنان وحزب الله من رفض لهذا المطلب أو تحفظ عليه، ذلك أن أمرا جللا حدث في الأيام الأخيرة دفع وزير الدفاع اللبناني، إلياس بوصعب، القريب من الرئيس عون، إلى الانقلاب على مواقفه السابقة كما مواقف عون والتبشير بحوار داخلي للوصول إلى الاستراتيجية الدفاعية المتوخاة لكي يصبح سلاح لبنان بإمرة جيشه.
وهذا الأمر الجلل هو ما أثار شهية منابر سياسية لبنانية كثّفت حملاتها خلال الأيام الماضية واستفاقت على عدم لزومية سلاح حزب الله وتقادم دوره المقاوم. قبل ذلك كانت تلك المنابر قد تخدّرت بروحية الصفقة الرئاسية بين عون والحريري على قاعدة ربط النزاع مع الحزب، بما يعني السكوت عن سلاحه حتى إشعار آخر.
فهل نحن في مرحلة “الإشعار الآخر”؟