رأي عربي
ما هي معتقدات "الانتحاري"؟
لم يكن الانتحار، باعتباره قراراً ذاتياً بالتخلي الطوعي عن الحياة، ظاهرة غربية في تاريخ الجنس البشري. فمنذ أقدم العصور وإلى اليوم، لايزال كثيرون يسيرون في لحظة عابرة، في اتجاه معاكس لأقوى الغرائز الطبيعية وهي غريزة الحياة.
تشير التجارب المختلفة إلى إقدام المنتحرين على قتل أنفسهم بوسائل شتّى، يأخذ بعضها طابع الطقس القرباني - بصورة مباشرة أو غير مباشرة -، بينما لا يتعدى بعضها الآخر مجرد الإقدام على إنهاء الحياة بالوسيلة المتوفرة لحظة اتخاذ هذا القرار الرهيب. وتتعدد وتتنوع الأسباب والدوافع التي تقف خلف هذا القرار اللاّطبيعي/اللاّغريزي، فمِن قوافل اليائسين، يظهر مَن لا يستطيع تحمل أعباء اليأس، فلا يجد ما يُغالبه به غير الموت، ومِن المكتئبين يظهر مَن يجد في الموت ملاذه الأخير، بعد أن استبطن الحياة بوصفها التجلي الأوضح للعدم، ومِن وراء هؤلاء وهؤلاء مَن دافعه بسيط في ظاهره، ولكنه عميق ومعقد في باطنه، إذ هو لا يختار الموت على الحياة إلا لأن هذه الحياة بدت – من وجْهة نظره- غير جديرة بالاهتمام.
اأولاً: من هو الانتحاري؟
هذا فيما يخص الانتحار بشكل عام، لكن ليس موضوعنا عن "المنتحر"، ولا عن "الانتحار"، وإنما عن "الانتحاري" تحديداً. الانتحاري حالة خاصة، هو ظاهرة مستقلة بذاتها، على الرغم من تقاطعها شكلياً مع ظاهرة الانتحار في بعض جوانبها، والتي قد تقود في النهاية إلى إبراز أوجه المفارقة والاختلاف بملاحظة التباين الشديد، بل والتضاد في الدوافع والأهداف.
وإذا كان الانتحار قد أصبح ظاهرة شبه طبيعية توجد في بعض المجتمعات من وقت لآخر وترافق الوجود البشري. فإن ما نستنكره هو أن يقدم شخص "إرهابي" على الانتحار، ليس بهدف إنهاء حياته هو فقط، وإنما بهدف أن يأخذ معه إلى الموت أكبر قدر من الأحياء، وأن يُخلّف وراءه أكبر قدر من الدمار. إن المُنتحر يقتل نفسه كما يفعل الانتحاري/ الإرهابي تماماً. الصورة – على مستوى التمظهر السلوكي– واحدة، فما الذي يجعل الانتحاري ظاهرة مستقلة بذاتها؟.
هذا سؤال يطرح كثيراً من أوجه الاختلاف بين "المنتحر" و"الانتحاري"، وهي بدورها تُظهر ما يجول في عقل الانتحاري من محفّزات تدفعه في النهاية إلى ارتكاب أبشع وأشنع الجرائم بحق نفسه وبحق الآخرين، معتقداً – بيقين جازم – أنه يُقدم أغلى وأسمى ما يمكن تقديمه لنفسه وللآخرين.
ثانياً: الفرق بين المنتحر والانتحاري
يختلف الانتحاري عن المنتحر في أن الأول يقتل نفسه بدافع أملٍ كبير يتجاوز وجوده الشخصي، بينما يقتل الثاني نفسه بدافع يأس /قنوط/ غضب، محدود – غالباً – بوجوده الشخصي. وبالتالي، فالحياة ليست كابوساً مقلقاً عند الانتحاري، بحيث يعمد إلى الفرار منه، ولو إلى الموت. لكن الحياة في نظر المنتحر أسوأ من الموت، ولهذا يختار الموت عليها. ومن هنا، فالانتحار عند الانتحاري يُمثّل قمة الانخراط الإيجابي في هذه الحياة، إنه الفاعلية الأسمى
والأجدى لتحويل الحياة على هذه الأرض إلى حياة أفضل. أما الانتحار عند المنتحر، فهو آخر خطوات الانسحاب السلبي.
ومن ثم يعي الانتحاري نفسه بوصفه إنساناً مثالياً وصل إلى أعلى درجات المثالية، التي من خلالها قدّم نفسه ثَمَناً لتعديل مسار التاريخ إلى ما يعتقد أنه الأفضل. إنه يقتل نفسه وهو يحمل أعلى درجات تقدير الذات، بينما يقتل المنتحر نفسه وهو يحمل أعلى درجات تبخيس الذات. وبالنظر إلى سيكولوجية الانتحار، حيث يكاد يكون الشعور بالعزلة، والاغتراب، والتمركز حول الذات، والتوحد النفسي، والشعور السلبي تجاه الآخرين، وفقدان القدرة على توجيه الإرادة لشيء ما، أحد أهم سمات المنتحر، نجد أن الانتحاري لا يتوفر على هذه السمات.
وعلى نحو أدق وبصورة أوضح، لا يستهدف الانتحاري قتل نفسه أصالة بقدر ما يستهدف تحقيق هدف عام يتجاوز الذاتي ويتجاوز الآني المباشر. فالانتحاري ليس يائساً، بل هو يملك أملاً صادقاً بهذه الحياة، أملاً يملأ عليه كيانه كله. ولولا هذا الأمل، ولولا عِظم هذا الأمل الذي يعيشه بكل جوارحه، لم يكن ليُقْدِم على قتل نفسه بأشد الطرق بشاعة، آخذاً في طريقه إلى الموت أكبر قدر من الضحايا الأبرياء. وهكذا، فالأمل العام، وليس الإحباط الذاتي، هو ما يحرك الانتحاري، الذي لم يكن ليمزق نفسه أشلاء متناثرة، لولا يقينه الجازم بأن فعله هذا يصنع شيئاً مُهمّا في تغيير الواقع، بل وفي مُراجعة أخطاء التاريخ بأثر رجعي في بعض الأحيان.
كلاهما، الانتحاري والمنتحر، يحمل اعتراضاً على هذه الحياة، على الظلم والبؤس والقهر والفقر، لكن الانتحاري يُواجه هذا بالاعتراض الإيجابي (الإيجابي من وجهة نظره)، أي ببذل أقصى وأغلى ما يستطيع لتغييره. أما المنتحر فيواجهه بسلبية تامة. ومن ثم، فالانتحاري هو شخص مُؤدلج، تفاعلي، لا يتخلى عن مسؤولية وُجُوده كما يفهمها. بينما المنتحر شخص ذاتي، شخص فقد المعنى على مستوى وجوده الشخصي، وعلى مستوى حضوره الاجتماعي. إن الانتحاري يموت لأن للحياة معنى أكبر من حياته، بينما المنتحر يموت لأن ليس ثمة معنى للحياة لديه.
الانتحاري يؤمن بالدينا، كما يؤمن بالآخرة، وهو بانتحاره يُصلح – كما يتصوّر– عَالَمين في آن واحد. إنه يُصلح الدنيا التي يَتحمّل إيديولوجياً مسؤولية إصلاحها، بوصفه يتبنى خطابا مُتْخَماً بمَضَامين تنضح بمَهَام رسالية، كما يصلح في الوقت نفسه آخرَته، بتقديم روحه قرباناً للفداء من الخطايا، خطاياه، وخطايا المجتمع الذي بات في نظره مُستَحِقاً للهلاك. في المقابل، المنتحر فقد كل إيمان بالدنيا وبالآخرة، حيث لم تعد الدنيا في نظره قابلة للإصلاح بعد كل هذا الخراب، ومن جهة أخرى، ليس ثمة يقين بأخرى باقية، تكون تعزية عن الصبر في هذه الدار.
العالم الأُخْروي حاضر بقوة في وعي الانتحاري، إلى درجة أنه قد يعيشه أكثر مما يعيش واقعه الدنيوي، لكن يجب التنبه هنا إلى أن تحوّل الإنسان إلى انتحاري يُفجّر نفسه في الآخرين، لا يحدث فقط بدافع من إرادة الخلاص الأُخروي. معظم الانتحاريين لم يتجاوزوا منتصف العشرينيات من أعمارهم، وأكثرهم ليس لديه سوابق انحرافية، مما يعني أن التكفير عن الخطايا الذاتية ليس هو الدافع الأهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ثمة أكثر من طريق غير الانتحار، يعرف الانتحاري أنها تكفل له الخلاص. لكنه اختار هذه الطريق تحديداً، لا لتكون سبيله إلى الخلاص الذاتي فحسب، وإنما – وهو الأهم – لتكون سبيله إلى الإسهام الفاعل في الخلاص العام.
ثالثاً: المثالية محرك الانتحاري
مما سبق يبدو أن ثمة مِثَالية طاغية في الرؤية العامة للانتحاري. إنها المثالية التي تُسيطر على أولئك الذين لا يملكون رُؤى مُرَكّبة للمشاكل العامة الكبرى، التي قد تتسع بحجم العالم وبعمق التاريخ. المثالي يعتقد أن ثمة سبباً واحداً للمشكلة المعقدة ذات الأبعاد المتعدّدة. وبالتالي يعتقد أن حلها يكون من خلال هذا البعد الواحد. ولهذا كان أكثر المثاليين من صغار السن ومن قليلي الاطلاع، وهم دائماً الكوادر الفاعلة للأحزاب والتيارات التي تطرح حلولاً شديدة المثالية لأشد مشاكل الواقع الإنساني استعصاء.
ويعزز هذا ما نلاحظه عند التدقيق في أعمار الانتحاريين، فكلهم في العشرينيات أو أقل، ونادراً ما نجد (انتحارياً) تجاوز الأربعين من عمره. مما يعني سيطرة (الهدف المثالي) على الانتحاري، وأنه كُلّما كَبُر الإنسان وزاد اطلاعه، تعقّدت رُؤيته، وأصبحت مع الوقت مُرَكّبة أكثر فأكثر، وباتت الحلول المثالية لا تحمل إغراءً يفي بحجم إقدامه على قتل نفسه وقتل الآخرين.
خاتمة
أخيراً، لا يمكن اسْتِبْطان عالم الانتحاري الداخلي حتى نطرح هذا التساؤل الكبير: لماذا يقتل الانتحاري نفسه مع الآخرين، خاصة في بعض العمليات التي يُمكن أن يُنفّذها دون أن يجعل نفسه أحد الضحايا، أي لماذا لا يُقْدم – مثلاً - على عمل إرهابي، كإطلاق النار في المكان المستهدف؟. الجواب على هذا يُعيدُنا إلى تأكيد أهمية الإيديولوجيا – الهدف الغائي – المثالية. الانتحاري بقتله لنفسه مع ضحاياه، يُقدّم أقوى وأوضح الأدلة المادية المحسوسة – حتى لذوي الضحايا - على أنه يمارس هذا الفعل الشنيع (ولكنه المُقدّس في نظره) لهدف أسمى من الحياة ذاتها، فكأنه يريد أن يؤكد للآخرين ما يؤمن به، وهو أنه ليس مجرماً، بل حامل رسالة تتجاوز كل منفعة مادية، وإقناع الناس بها ليس أمراً هامشياً، بل هو هدف أسمى، يتجاوز صراع الأحياء على الوجود المادي، بل ويتجاوز الحياة ذاتها كقيمة في الوجود الفردي للإنسان.
الانتحاري بقتله لنفسه مع ضحاياه، يُقدّم أقوى وأوضح الأدلة المادية المحسوسة حتى لذوي الضحايا - على أنه يمارس هذا الفعل الشنيع (ولكنه المُقدّس في نظره) لهدف أسمى من الحياة ذاتها، فكأنه يريد أن يؤكد للآخرين ما يؤمن به، وهو أنه ليس مجرماً، بل حامل رسالة تتجاوز كل منفعة مادية.
*كاتب سعودي في جريدة الرياض