أزراج عمر يكتب:
الثقافة والطبقة عند الدكتور الطيب تيزيني
في الأسبوع الماضي فقدت الحركة الثقافية ببلداننا الدكتور الطيب تيزيني الذي كرّس حياته كلها للفكر، ونقد الثقافة، وتدريس الفلسفة الغربية والعربية الإسلامية والكتابة في قضاياها حيث صدرت له كتب كثيرة تعد مساهمة بارزة في حياتنا الثقافية المعاصرة.
أذكر أنني التقيت بهذا المفكر في بدايات ثمانينات القرن العشرين في العاصمة التونسية بمناسبة انعقاد ندوة فكرية بقاعة ابن رشيق وشارك فيها بفاعلية وجدية كعادته. ومن الملاحظ أن كتابات الطيب تيزيني لم تنل حظها في السنوات الأخيرة من التحليل والعرض والتوظيف ماعدا بين أروقة الجامعات المعتمة.
ويبدو أن السبب الجوهري في ذلك هو اختفاء أغلب المنابر اليسارية في معظم الدول العربية، إضافة إلى خمود صوت اليسار الفكري والسياسي، وخاصة الماركسي منه ببلداننا في خضم بروز مشاغل فلسفية وفكرية مختلفة وفي صدارتها البنيوية، والتفكيكية، وبراغماتية ريتشارد رورتي، وما بعد الحداثة بكل تياراتها المتباينة فضلا عن هيمنة المثقفين المنتجين والمكرسين لخطابات الأصوليات الدينية والرأسمالية في بلداننا واحتلالها لساحات النقاش وانفرادها بالحياة السياسية والثقافية على نحو ملفت للنظر حقا، وغير ذلك من الموضات الفكرية والنزعات الثقافية الأخرى.
وفي الواقع فإن المنظور الماركسي في طبعته العربية يراوح بين منزلتين متضادتين وهما تحويل الماركسية إلى أيديولوجيا حينا والإبقاء عليها ضمن الإطار المعرفي ولكن ضمن الأفق التقليدي الذي يخلو غالبا من الإبداع والإضافة من خلال استلهام تجاربنا في مجتمعاتنا على نحو متميز له خصائصه وبينته التي تبتعد جميعا عن إعادة إنتاج نمطي لموروث الماركسية في طبعتها الروسية، والأوروبية الشرقية، أو الصينية الماوية وهلمّ جرا، فهل نجد عند الطيب تيزيني منظورا ماركسيا متميزا مستمدا من تجربة وخصائص بلداننا التي يخضعها للدرس والنقد والتحليل؟
بادئ ذي بدء لا بد من القول إن سبر جميع مؤلفات الطيب تيزيني أمر يتطلب وقتا وفضاء واسعين وهما غير متوفرين لي في هذه العجالة، وبسبب ذلك سأركز فقط على قضية واحدة وهي علاقة الطبقة بالثقافة وهي القضية التي يعالجها الدكتور تيزيني بحماس وحرارة وكثير من الوعي بأن الثقافة ليست مجرد بنية فوقية محايدة في نسيج حركة التاريخ العام، وفي التاريخ الخاص بمجتمعاتنا مشرقيا ومغاربيا.
لقد كرس الدكتور تيزيني كتابين اثنين من الحجم الكبير لنقد الثقافة بالمعنى الكانطي لمفهوم النقد. بالنسبة للدكتور تيزيني فالنقد لا يعني تصويب الرماح إلى الأخطاء ثم العمل على تصحيحها وإنما يعني بالنقد التحليل الجدلي للمعمار العام لبنية الثقافة في علاقتها العضوية بالاقتصاد والتشكيل البنيوي للمجتمع ولقيم ونفسيات الناس فيه.
الكتاب الأول هو “حول مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث: الوطن العربي نموذجا”، أما الكتاب الثاني فهو “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي من العصر الجاهلي حتى المرحلة المعاصرة: من التراث إلى الثورة، حول نظرية مقترحة في التراث العربي”.
لا بد من تسجيل ملاحظة أولى وهي أن الدكتور تيزيني لا يدرس الثقافة أنتروبولوجيا ولا نجده يفكك عنصرا واحدا ومحددا من العناصر المشكلة للثقافة، كما فعل الدكتور حسين مروة. كما نلاحظ اختلافا نوعيا بين الدكتور تيزيني وبين الشاعر أدونيس الذي اختار العنصر الثقافي العربي المتمثل في الشعر تخصيصا، وقام ببحث قطبي الثابت والمتحول فيه وعلى نحو متزامن أسقط بشكل فيه الكثير من المغالطات مفهوم الحداثة الغربي دون تمييز أسباب نشأته ودلالاته في الثقافة الأوروبية/ الغربية.
ويختلف الدكتور تيزيني عن محمود العالم أيضا في كون هذا الأخير ليس من أصحاب المشاريع الكبرى، على تنوعها، مثل حسن حنفي أو محمد أركون أو محمد عابد الجابري وغيرهم.
الطيب تيزيني كان يرى أن الثقافة ليست سابقة على التاريخ، بل يربط ظهور الثقافة بظهور المجتمع الطبقي
وهنا نتساءل: كيف يفهم الدكتور تيزيني الثقافة في علاقتها بالطبقة في السياق الخاص بالجغرافيا الممتدة من المحيط إلى الخليج؟ يبدو واضحا أن الدكتور تيزيني لا يهمه التعريف التقليدي للثقافة “المتضمن للإنتاج الإنساني بمجموعه، المادي والفكري والروحي”، بل فهو يريد “تقصي مشكلة الثقافة في شكلها الذهني”، وفضلا عن ذلك فهو يرى أن الثقافة ليست سابقة على التاريخ من جهة ومن جهة أخرى فإن نشأة الثقافة كانت نتاجا لبروز ما يدعوه بـ”التعارض بين العمل العضلي اليدوي والعمل الفكري والذهني”. ثم يربط ظهور الثقافة بظهور “ما نسميه بالمجتمع الطبقي”.
وفي تقديره فإن نشأة المجتمع الطبقي هي ما “أنهى المرحلة البدائية المتخلفة وافتتح المرحلة الحضارية”. ندرك هنا أن الدكتور تيزيني يفسر الثقافة تفسيرا طبقيا حيث يجعل الطبقية أساسا حتميا للثقافة كما تنزع إلى ذلك الماركسية التقليدية. وفي هذا الخصوص يقول “ونحن إذ نتكلم عن ‘ثقافة‘ و‘مثقفين‘، فإننا نرى في هذا المجتمع المنقسم إلى طبقات متمايزة، الإطار الأول الذي تولدت وتبلورت فيه الثقافة بحامليها المثقفيْن”.
وفي مكان آخر يقفز مبتعدا عن هذا الفهم الأحادي البعد لجنيالوجيا الثقافة مستدركا أن الثقافة هي نتاج للعمل اليدوي والعمل الثقافي، ويبرر ذلك بأن العمل العضلي مشروط دوما بتنفيذ تقنيات مهما كانت بدائية وهي في آخر المطاف نتاج للتعلم والدربة والتفكير. لا شك أن الدكتور تيزيني يريد بهذا الفهم أن ينأى بنفسه عن تعسف الماركسية الأرثوذكسية التي تعتبر الثقافة والوعي بالعالم مجرد نتاج للبنية التحتية كما ورد هذا الزعم في المقدمة التي وضعها ماركس لكتابه “نقد الاقتصاد السياسي”.
ويواصل الدكتور تيزيني استعادة مفاهيم الماركسية التقليدية للثقافة قائلا “إن الثقافة في مجتمع طبقي هي بالدرجة الأولى ثقافة الطبقة المسيطرة في هذا المجتمع″، وهذا ما يجعل للثقافة تاريخا في رأيه. إذن إنه يمكن لنا أن نستنتج من كل هذا أن الثقافة هي تاريخها الطبقي. ولا شك أن هذا التأريخ للثقافة ولمصادرها وأسباب وجودها في المجتمعات ينبغي أن يطمس حقائق أخرى وهي أن أي مجتمع يفرز دائما الثقافة المهيمنة والثقافة المتضادة، وبخلاف ذلك فإن المنهج الديالكتيكي الذي يعتمد عليه الدكتور تيزيني سيسقط ويتركنا أسرى الأحادية في تأويل الثقافة باعتبارها جزءا عضويا من حركة التاريخ، وهذا ما يحاول الدكتور تيزيني أن يتجنبه حينما يؤكد أن الثقافة ليست متجانسة دائما بل إن هناك ثقافتين دوما ونوعين من المثقفين أيضا.