محمد قواص يكتب:
الدروز والجبل و"عامود السما"
لا يقدم الدرزي في لبنان نفسه بصفته درزيا بل بصفته من "الجبل". والجبل في هذا السياق هو دينه ومذهبه وهويته وحكاية تاريخه في لبنان القديم كما الحديث. والجبل مرجع يتجاوز في معناه الجيولوجي والجغرافي والرمزي أية مرجعيات روحية لطالما التصقت بها بقية طوائف البلد. صحيح أن طوائف عدة تنتمي تاريخيا إلى هذا الجبل، إلا أن أي كلام عن موقف الجبل أو حرب الجبل أو مزاج الجبل هو نظمٌ يراد منه قافية واحدة هي دروز لبنان.
والدرزية السياسية في لبنان هي جنبلاطية منذ ما قبل تشكّل الكيان اللبناني بأوصاله وخطوطه الحالية، وهي للمفارقة جنبلاطية، من حيث أنها تدور حول البيت الجنبلاطي والموقف معه أو منه، حتى لو كانت ولاءات الدروز تتغير، وفق تقسيمات عتيقة مع اليزبكية بزعامة الارسلانيين، أو وفق موازين قوة الأمر الواقع التي فرضت وئام وهاب قطبا ثالثاً يسعى لأن يجد لنفسه حيثية مستحدثة طارئة.
والدروز في المشرق، في فلسطين والأردن وسوريا، ينظرون صوب قبلتهم السياسية في "الجبل" في لبنان على الرغم من أن للدروز "جبل" في سوريا. يشبه ذلك ما للمسيحيين في لبنان من مكانة قيادية تحدد لمسيحيي الشرق بوصلة ووجهة. وعلى الرغم من أن أيديولوجيات بليدة لطالما قللت من شأن لبنان في مساحته ومحدودية ديمغرافيته، إلا أن دينامية ما جعلت من البلد واجهة كبرى للهويات الحائرة في كل المنطقة.
ورث وليد جنبلاط عن والده زعامة لم تقبل بالجغرافيا والديموغرافيا. كان كمال جنبلاط سياسيا فيلسوفاً رائدا من رواد العروبة وواجهة من واجهات اليسار في العالم. جعل كمال جنبلاط من الحزب التقدمي الاشتراكي ركنا داخل الاشتراكية الدولية وحجر زاوية من أحجار العروبة الصاعدة. وحين قتل الأب اكتشف وليد أن الحزب فاض عن دروزه وأن اغتيال والده كان يهدف إلى اغتيال الجنبلاطية بما تمثله من ورشة عابرة للطوائف والحدود.
لم تكن الارسلانية تستطيع صناعة زعامة ما فوق "الجبل" ولم تكن تطمح إلى ذلك. انتمت الجنبلاطية لليسار وانتمت الارسلانية لليمين. وحين خاض "الجبل" معاركه ضد اليمين المسيحي كان ذلك يعني أن الجنبلاطية فرضت خيارها. وحين طمح الخصم المسيحي إلى "استعادة" زمام الأمور على كامل البلد كان لابد من كسر هذا "الجبل". فشل الخصم بنسخة "القوات" أو نسخة ميشال عون. كان ذلك الفشل إعلان هزيمة قاد حكماً إلى توقيعه في الطائف في السعودية عام 1989.
السيطرة على لبنان مفتاحها في الجبل. تاريخ لبنان يروي أن كل القوى الخارجية التي غزت البلد كانت تتعامل مع الجبل بصفته تحدياً وجب إخضاعه أو مداراته. أهل الداخل فهموا ذلك متأخرين. كان يجب العبور من خلال حروب أهلية حتى يُفهم أن الجبل أصل وليس هامش في الحكاية اللبنانية. ولأنه أصل سعت العونية، عّما وصهراً، لإعادة الوصل مع هذه المنطقة لعل منها بلغة "القوي" يتم التمكن من السيطرة على كل البلد.
حجُّ جبران باسيل إلى الجبل لم يكن بداية. البداية سابقة تعود إلى استراتيجية الخصوم في تفكيك ذلك الجبل العصيّ من داخله. بدا أن اغتيال كمال جنبلاط عام 1976 كان منطلقاً لحلقات مترابطة هدفها تجويف الجنبلاطية أو جعلها مدجّنة يتم التلاعب بها في المشهد الكلي للجبل. تمكنت الوصاية السورية من نفخ قيادات ومنحها امتيازات وجعلها جزءا من المشهدين الحكومي والبرلماني، وتمكن حزب الله بعد ذلك من توفير الدعم لشرذمة النسيج السياسي الدرزي في وجه الجنبلاطية. قدم هجوم "7 أيار" (2008) الذي شنه حزب الله (على الجبل أيضا) نموذجاً للحدود التي يمكن أن تتطلبه إزاحة الجنبلاطية. وقدم الحزب مفتاح الحلّ لحليفه في الجبل طلال إرسلان لتدبير المخارج علّها تحوله إلى زعيم الدروز بلا منازع.
بقي وليد جنبلاط زعيم الدروز. خيضت حروب إلغاء ضده من قبل دمشق وطهران وما زالت تخاض، وما جرى في الأيام الأخيرة هو جزء آخر من تلك الحروب. يعتصم الرجل بجبله ولا شيء آخر غير هذا الجبل. لن تدافع عنه سنية سياسية مأزومة، ولا شيعية سياسية قلقة، ولا مسيحية سياسية مهتزة. ولا يبدو كثيرا أن موسكو وباريس لندن قد تهتم بسرعة لشأنه. لم يحدث ذلك حين حاصرته قوات حزب الله قبل 11 عاما فلماذا يحدث ذلك الآن.
يعرف "البيك" حدود اللعب وقواعده. يهادن بإفراط. هكذا فعل بعد "7 أيار". خرج من تحالف "14 آذار"، وثبت لاحقاً أن لا "14 آذار" دون وليد جنبلاط. قرأ جنبلاط آنذاك مشهد العالم يقذف بحقائقه تحت نوافذ منزله المحاصر في بيروت. انقلب برشاقة على نفسه وقَبِلَ بالحجّ الجديد صوب حزب الله وسّيده. تغيّر هذا العالم. زار سعد الحريري دمشق ثم زار بشار الأسد بيروت وبات لبنان أسير مداولات الـ "سينين"، السعودية وسوريا.
حتى في مغادرته التحالف "السيادي" لا أحد اتهم جنبلاط بالخيانة. للرجل سحر خاص في ذاكرة اللبنانيين. أهل الجبل انفسهم، حتى المناصرين لخصومه، يجدون أن سلامتهم من سلامة بيت المختارة. وإذا ما تدخل أرسلان لـ "إنقاذ" جنبلاط من غضب حزب الله وغزواته، فذلك أن "الموحدين" لن يغفروا له ولحليفه الكبير المسّ بصرح "الجبل" وابن "عامود السما". وربما هذا السحر هو الذي أسس لتلك الليلة التي أعادت الأسبوع الماضي جمع جنبلاط بالحريري في ضيافة نبيه بري.
الدروز جماعة صلبة في راهن لبنان، وهي جماعة عريقة في صناعة ونشوء هذا البلد. يتباهى الدروز في تاريخهم المناهض للاستعمار. وثورة "جبل العرب" بقيادة سلطان باشا الأطرش في سوريا ضد الفرنسيين جزء من فضاء الذاكرة الجمعية الدرزية. وربما ذلك التاريخ ما دفع الجنبلاطية السياسية دون غيرها وبشخص وليد جنبلاط لدعوة دروز فلسطين لرفض التجنيد في صفوف الجيش الإسرائيلي. والدروز كلّ واحد حتى لو اضطروا للانقسام في سوريا وحول سوريا. ففي آخر النهار هناك في المختارة من يجيد لغة الحساب وحياكة المعادلات التي تقي الدروز أنواء تفوق قدرتهم على الصمود.
خسر جبران باسيل معركته الأخيرة في الجبل. ليس بالضرورة أنه سيتوقف عن فتح تلك المعارك طالما هناك من الكبار من يرعى خوضها. ربح وليد جنبلاط المعركة الأخيرة دون أي يقين من نتائج المعركة الآتية حتماً. كان الرجل في الكويت قبل أيام وقبلها مر في باريس ولندن ودق نجله تيمور أبواب موسكو فيما موفديه يترددون على الرياض. يراقب زعيم الجبل مسار الأزمة الدولية مع إيران دون تعويل كبير على نتائجها.
قبل اغتيال والده كان وليد جنبلاط يهوى السرعة في قيادة الدراجات النارية. أتى إلى السياسة على عجل، وربما علمته التجارب الموجعة المناورات السريعة المتهورة. بيد أن السنوات خصّبت في عقل الرجل نزوع نحو التأمل ومقاربة الأمور بعين الفيلسوف.
يغرد جنبلاط وكلما غرّد وألحق التغريدة برسم، اشتغلت الغرف المغلقة على تحليل القول لعل في ذلك إدراك لما يعرفه ولا يعرفونه.