محمد قواص يكتب:
واشنطن-طهران: ارتباك ترامب
تمسك إيران بزمام المبادرة. تندفع إلى الفعل وتترك للآخرين رد الفعل. وحتى الآن، ما زال للفعل أصداء مثيرة فيما يبقى رد الفعل هزيلاً فاتراً مرتبكاً. لا شيء في رد طهران على انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مفاجئ. تسلك إيران في ردودها خريطة طريق متوقعة ومنطقية. يسقط الاتفاق فتسقط التزامات أطرافه.
قبل أن يحتل باراك أوباما ناصية الحكم في البيت لم تكن الولايات المتحدة معنية بالتفاوض مع طهران. كانت واشنطن تدرج إيران داخل محور الشرّ وتمارس ضدها سياسة احتواء معروفة. انهمكت الترويكا الأوروبية منذ عام 2004 في تفقد إمكانات التفاوض إلى أن حوّلت الأوبامية سفينة بلاده صوب وجهات أخرى (آسيا المحيط الهادي) اقتضت الاتفاق مع، وليس الالتفاف على، إيران.
ليس الاتفاق النووي شأنا إيرانيا ولم يكن يوما هدفا لنظام الجمهورية الإسلامية. سهرت واشنطن من خلال القناة الخلفية المباشرة في مسقط على حياكة الاتفاق ثم سوّقت ولادته لدى الشركاء الدوليين الآخرين. وعلى ذلك فإن الاتفاق يمثل مقاربة واشنطن وليس طهران لتأجيل هاجس القنبلة النووية الإيرانية.
أن تذهب إيران نحو تهديد الملاحة الدولية في مضيق باب المندب ومياه الخليج فتلك جلبة يتطلبها الحدث تجيد طهران إحداثها. وأن تذهب إيران إلى رفع نسبة تخصيب اليورانيوم مما هو حلال إلى ما هو حرام، فهو إجراء منطقي يفترض أن من قرر تفجير الاتفاق أن يكون قد وضعه في الحسبان. فأما أن واشنطن تستدرج إيران إلى تصعيد عسكري و"نووي" لغاية مبرمجة ومقررة في خطط الدولة العظمى، وأما أن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب ارتجالي انفعالي يسهل على الساسة في طهران التعامل معه.
لم تلحظ طهران أي جدية داهمة تهدد نظامها الحاكم في إيران. البلد معتاد على العقوبات، وهي كانت أوسع مجالا حين كانت صادرة عن مجلس الأمن الدولي وتحظى بإجماع أممي. اتهمت واشنطن طهران بالوقوف خلف التفجيرات التي طالت سفن شحن قبالة ميناء الفجيرة في الإمارات (12 مايو)، رغم أن وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد أعلن لاحقا أن العمل قامت به دولة، لكن بلاده لم تجد أدلة كافية ضد دولة بعينها. واتهمت واشنطن إيران باستهداف ناقلتي نفط في خليج عمان (13 يونيو) وبإسقاط طائرة أميركية مسيّرة فوق مياه الخليج (20 مايو). ومع ذلك، ورغم كل هذه الاتهامات الأميركية حصراً، لم تلحظ طهران أي رد يليق بمستوى هذه الاتهامات.
أكثر من ذلك. لا ترى إيران من كافة محاولات التوسط التي جرت في الأسابيع الماضية إلا توْقا أميركيا نحو الحوار وليس الصدام. ترامب نفسه يؤكد ذلك بصفته سلوكا ثابتا فيما تأتي تهديداته بالخيار العسكري عرضية لا مصداقية له. وفي ما حمله رئيس وزراء اليابان، وبعده وقبله موفدو عُمان وألمانيا وبريطانيا وسويسرا، وما يحمله هذه الأيام موفد فرنسا، بدا للمتلقي الإيراني أن الوسطاء يحملون في جعبتهم رسائل أميركية بصيغ مختلفة تروم إقناع طهران بالإفراج عن احتمال التفاوض كواجهة ضرورية من واجهات الحملة الانتخابية لترامب المرشح لانتخابات الرئاسة العام المقبل.
لا شيء وفق ذلك يضطر إيران إلى إحداث تحوّل في أدائها وتبدل في خطابها. تدرك طهران أن المفاوضات قادمة وأنها ذاهبة إليها يوما. لكن لا شيء عاجلا ولا شيء يدفعها لتكون مواعيد الأمر مواتية لتوقيت رجل البيت الأبيض وأجندته. لم يحقق الرئيس الأميركي إنجازا في كوريا الشمالية بإمكانه أن يكون نموذجا ضاغطا على صاحب القرار في طهران. فإذا ما كان ترامب يحتاج إلى مزيد من الصور مع كيم جونغ أون، فلأمر كهذا مع قادة إيران أثمان باتت مطلوبة من طالب تلك الصور نفسه.
المشهد حتى الآن هو لصالح إيران. تحتاج إيران إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة 90 بالمئة لإنتاج قنبلتها النووية. أما وقد رفعت نسبة التخصيب إلى 5 بالمئة وتهدد بمرحلة قادمة ترتفع فيها تلك النسبة إلى 20 بالمئة، فذلك يعني أن أمامها وقت طويل لملاعبة هذا العالم واستدراج مواقف من هنا وهناك والاستمتاع بوساطات جديدة. وحتى حين يحين وقت التفاوض وفق مواعيد طهران، فإن ذلك سيتم على قاعدة أن إيران ذاهبة نحو القنبلة النووية، وبالتالي من موقع قوة وليس من موقع الخانع لشروط مايك بومبيو الـ 12 الشهيرة.
لا يمكن للمراقب إلا أن يلاحظ أن العالم يتعامل مع إيران بصفتها دولة كبرى وأساسية في العالم وأن عليه القبول والتعامل والتفاوض والحوار مع نظامها النهائي. لا شيء في الولايات المتحدة وأوروبا يوحي بغير ذلك، حتى أن الرئيس الفرنسي يتداول الأمر مع الرئيس الإيراني حسن روحاني كمقدمة لبحث الأمر مع الرئيس الأميركي. بدا وكأن "الدول الصديقة"، كل على طريقته، تتوسط لترامب لدى طهران، وليس العكس، علّها تقدم للرجل شكلا من أشكال القبول بالتواصل معه، وهو الذي ما برح يردد ويكرر أنه جاهز لمقابلة أي مسؤول إيراني (يكاد يقول يقبل بلقائي).
تعرف إيران أنها دخلت الآن في الوقت الضائع. لا مجال لحرب تشنها الولايات المتحدة بقيادة رئيس يحسب أموره وفق المفيد والمضر في رحلته الجديدة نحو ولاية ثانية في البيت الأبيض. تعرف أيضا أن ترامب قد يعجز عن توجيه ضربات عسكرية موضعية شكلية، على منوال ما فعله في سوريا ردا على استخدام النظام هناك للأسلحة الكيماوية، إذا لم يملك ضمانات بأن لا رد إيرانيا يستدرجه وبلاده نحو حرب كبرى لا سيطرة على مآلاتها.
وفق تلك الرؤية، وحتى ظهور معطيات تناقضها، فإن ترامب واقع في الفخّ، ولن يستطيع أن يحقق تقدما حقيقيا في ملف المواجهة مع إيران. وفق تلك الرؤية، فإن السجال مع طهران، والذي انضم إليه قبل أيام نائب الرئيس الأميركي مايك بنس سيكون من ضمن عدّة الحملة الانتخابية دون أن تكون أصلا محوريا في دفاع ترامب عن ترشيحه الثاني رئيسا للبلاد.
لم يستطع ترامب وربما لم يحاول اقناع الرأي العام الداخلي أن إيران تمثل خطرا استراتيجيا على الولايات المتحدة. فعلت الإدارة الأميركية ذلك عشية خوض الحرب ضد أفغانستان والعراق ويوغسلافيا. بيد أن أمر الصدام مع إيران بالنسخة التي أرادها ترامب منذ 8 مايو 2018 (الانسحاب من الاتفاق) بقي مسألة ترفية يخوضها ترامب وفريقه ضد خامنئي وفريقه. وإذا ما أراد ترامب العودة إلى البيت الأبيض مرة ثانية، فعليه استعادة خطاب شعبوي داخلي، برع به، باتجاه ازدهار أميركا والأميركيين، والترويج لخطاب التعامل مع العالم بلغة الصفقات الرابحة في مناكفة حلفاء بلاده (أوروبا وكندا مثالا) وخصوم بلاده (روسيا والصين مثالا)، وبالتالي استبعاد ما يمكن أن يكون مضرا خاسرا في التعامل مع الخارج.
لا يبدو أن مقاربة ترامب الرئيس للمسألة الإيرانية مربحة لترامب المرشح. تعرف طهران ذلك ولن تُقدّم له ما يمكن أن يريحه في مسعاه الرئاسي، وهي التي تعوّل على سقوطه وصعود أحد المنافسين الديمقراطيين الذين أجمعوا في آخر مناظرة في ما بينهم أنهم سيعودون إلى الاتفاق النووي الذي أخرج ترامب بلاده منه.
حتى تختار أميركا رئيسا فلا شيء يقلق إيران من الخارج. وما قد يقلب هذه الطمأنينة تبدل عملي جدي ذي مصداقية يأتي من الخارج أو مفاجأة تنفجر من الداخل.