كرم نعمة يكتب:
جيل الويكيبيديا لا يقبل بالصحافة
يتأمل روي غرينسلايد محرر شؤون الميديا في صحيفة الغارديان الواقع البريطاني من زاوية إعلامية ما بين عام 1964 عندما بدأ مهامه كصحافي وبين بريطانيا 2019، ويرى أن كل ما جرى من تغيرات متعلقة بالطبقات الاجتماعية والعرق قد أثر على تركيب وسائل الإعلام بطرق مختلفة. عندما أصبحت الصحافة سوقا متجانسة تقريبا من الطبقة الوسطى يُتوقع أن يحصل العاملون فيها على درجة من الخبرة والتعلم.
ويصل في النهاية إلى خلاصة مفادها أن الصحف البريطانية عكست واقع الطبقات الوسطى والاهتمامات المحلية وتلبية شغف الجمهور بما يحدث في البلاد وخارجها. ولم تعد الصحافة مقتصرة على الطبقات الارستقراطية واهتماماتها.
وعندما يتعلق الأمر بي فإن السنة الأولى في العمل الصحافي لغرينسلايد، كانت سنة ولادتي في بغداد، وبعد أكثر من ثلاثة عقود في العمل الصحافي لا أزال إلى اليوم أرتبط بزمالة وصداقة عمل لزملاء متواصلين منذ عام 1964، فهل يمكن بعدها أن نتحدث عن صحافة عربية متصاعدة منذ ذلك التاريخ؟
آمل ألا أكون متشائما وأنا أجتهد في عمل مقارنة موضوعية، في وقت تعيش الصحافة أزمة تعريف في زمن ليس عادلا بحقها.
لقد تغير العالم لكن صحافتنا العربية عاجزة عن القيام بثورة لإعادة اكتشاف محتوى يتناسب مع التغيرات التي تحدث في بنية وتفكير المجتمع، وفي كل الأحوال لا يمكن التحدث عن بيئة مثالية يعيشها الصحافي العربي من أجل إحداث التغيير، بيد أن الالتباس المتمثل في الأنانية والخضوع والخوف من الحكومات لا يمنح الأمل في تغيير قريب في محتوى الصحافة العربية.
الخيبة تكمن اليوم في الهبوط المريع بالنسبة لصحافيين عرب عن صناعة خطاب جديد والخضوع للسائد والتعبير بلغة سطحية مكررة
عندما يتعلق الأمر بالمحتوى فإن التكرار هو نقطة ضعف الصحافي ويمكن لنا أن نطوي سنوات من الكتابة المكررة التي لا تضيف شيئا ولسوء الحظ مازالت مستمرة إلى اليوم في الصحافة العربية.
هناك ما يسمى الفكرة الصحافية التي لم تعد تخدم هدفها في الزمن الرقمي، إذ لا يمكن بث الحياة في الأفكار الميتة، ومع ذلك تكرر صحافتنا تلك الأفكار من أجل أن تشهر شهادة موتها.
الأفكار النيرة والمتجددة ستجد مكانا لها في القمة ولا تهبط إلا لترتقي بدلا منها أفكار نيرة أخرى، وهذا ما يجعل الصحافة مصدرا للإلهام وليس مصدر الخيبة المستمرة.
الصحافة كلمة متفجرة اليوم، وهي غير مقبولة على الأغلب من جيل الهواتف الذكية، ومن جيل آخر كان قد أحب قراءة الصحيفة، لكنها صارت تسبب له الملل كلما عاد لقراءتها! مع ذلك يمكن لنا كصحافيين وبمزيد من الأمل وصناعة الأفكار الجديدة أن نستبدل كلمة الصحافة بالليبرالية التي تحدث عنها مارك توين، عندما اعتبر وفاة الليبرالية مبالغة. ونحن كذلك سنعتبر وفاة الصحافة العربية مبالغة، “المجتمعات القائمة على الأفكار الليبرالية الأساسية هي الأكثر نجاحا في التاريخ. يجب الدفاع عنها ضد أعدائها”، كما يجب الدفاع عن الصحافة ضد من يريد إخضاعها.
عندما نسأل ما هي الصحافة؟ كم أود من القراء العرب أن ينسوا صورة الصحافي الذي ينحني أمام الزعيم والملك والأمير والرئيس ولاحقا أمام رجل الدين، ويعتبر ذلك واجبا صحافيا ليكتب لاحقا عن إخلاصه السياسي! هذا تعبير عن زمن كان طاغيا في يوم ما، لكنه إن وجد اليوم فلا معنى له حتى وإن حصل بقناعة تامة، هناك مهام أكثر تعرّف الصحافي اليوم وهو يتنافس مع جيل الويكيبيديا وفق بيان الإنترنت.
عندما يشعر الصحافي بأنه يعيش عصرا غير عادل بحق عمله في الزمن الرقمي، فليس حلا أن يكون جزءا من الخطاب الشعبوي السائد على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف الحضور فيما تغيب المهمة الأساسية.
الخيبة تكمن اليوم في الهبوط المريع بالنسبة لصحافيين عرب عن صناعة خطاب جديد والخضوع للسائد والتعبير بلغة سطحية مكررة وفق مشيئة “جيوش من الحمقى” يستحوذون على الشبكة الاجتماعية.
الصحافة ليست مشروعا شعبويا يفكر بالحضور الدائم بغض النظر عن التأثير، بل هي روح خدمة عامة تقدم للناس وفق تعريف جديد كتبه ألان روسبريدجر الذي بقي في موقعه عقدين من الزمان في أطول فترة لرئيس تحرير صحيفة الغارديان البريطانية.
ويطالب روسبريدجر الصحافيين بالتخلص من تقمص دور مشجعي النادي الذي يخسر بشكل دائم بينما جمهوره يستمر في التشجيع “لا أحد يحبنا، نحن لا نهتم“.
ويقول في كتابه “كسر الأخبار” “إذا كانت الصحافة، إلى حد ما، خدمة عامة، فيجب على المحرر أن يفهم روح الخدمة العامة، وهو أمر ذو قيمة للمجتمع دون أن يحقق بالضرورة عائدا ماليا مباشرا. هذا يعني التفكير في هذا النوع من الصحافة بنفس الطريقة التي قد يفكر بها رجل الشرطة أو قائد سيارة الإسعاف أو رجل الإطفاء. أنت، كمواطن، تتوقع أن يتم تشغيل هذه الخدمات بكفاءة، لكنك لا تتوقع أن يضطروا إلى تبرير أنفسهم على أساس الربح”.
في يوم ما كتبت أن الصحافي هو نسخة ذهنية من نيوتن إن تطلب الأمر! ومن المناسب أن أعيد نفس الكلام من أجل الأمل في مستقبل الصحافة، فحين جلس نيوتن يوما شارد الذهن تحت شجرة التفاح، كما تقول الحكاية، وينبغي الحفاظ عليها بنوع من الخشوع، لأنها أصبحت أسطورية، بالرغم من الموقف المتشكك للفيزيائي الفرنسي لوب فيرليت الشارح المتميز لأعمال نيوتن، فإن ما نقلته الحكاية وقع على الأرجح، لكن فيرليت سيؤكد على العكس من ذلك أن نيوتن أسس من بداية مساره العلمي بهذه الأسطورة التي سيدعمها في شيخوخته، فتوصل إلى طريقة التفاضل وتمكن من وضع نظرية الألوان وبعدها إلى طريقة التفاضل العكسية، وفي السنة نفسها بدأ التفكير في امتداد الجاذبية إلى مدار القمر.