محمد قواص يكتب:

لبنان... العدّاد المسيحي

كانت صدمة الفلسطينيين في لبنان كبيرة حين استفاقوا على استفاقة الحكومة اللبنانية بعد أكثر من سبعة عقود على وجودهم، باعتبارهم أجانب ككل الأجانب، يخضع من يريد العمل منهم إلى قوانين أكثر قسوة من تلك التي تُفرض على العمالة الأجنبية في لبنان.

ولئن يبقى السجال حول الوجود الفلسطيني في لبنان مثار جدل تَطاحنَ اللبنانيون حوله وجعلوه عذرا لاحترابهم الأهلي، فإن شريحةً من اللبنانيين اكتشفت في الأيام الأخيرة أنها ضيفة من ضيوف لبنان يخضع السماح لها بالعمل في مؤسسات الدولة لمزاج حاكم يقرر وفق معايير طائفية مخجلة فتح سبل التوظيف لهم أو منعها عنهم.

"المسيحيون خائفون". تلك الجملة التي ترددها شخصية طريفة في إحدى مسرحيات زياد رحباني باتت عقيدة سياسية فكرية تكاد تكون لاهوتية. والأمر في معناه السياسي الذي لا يزال يسوّق تحت مسميات متعددة يبرر وقاحة تمنع توظيف من نجح في الامتحانات للالتحاق بوظائف الدولة، فقط لأنه مسلم.

يغرف جبران باسيل من خزان شعبوي لا ينضب بذريعة الدفاع عن حقوق المسيحيين. وسبق لعمّه رئيس الجمهورية ميشال عون أن غرف كثيرا من نفس الخزان فأوصله ذلك يوما إلى قصر بعبدا. فلماذا لا يستعين الصهر بنفس العدّة والتعويذات تعبيدا للطريق نحو الرئاسة يوما ما؟

في هذا أن بعض اللبنانيين ضيوف وبعضهم الآخر من أهل البيت وأصل وجوده. كانت هذه الأوهام تداعب جماعات مسيحية افتُرض أنها غابرة كانت تعتبر لبنان وطنا مسيحيا يعيش فيه مسلمون. لم تستطع تلك الجماعات الاعتراف بخصوصية هذا البلد لجهة موقعه الجغرافي داخل العالم الإسلامي وفي قلب ديمغرافيا مسلمة باتت عملاقة من المحيط إلى خليجي وصولا إلى بطن الشرق البعيد.

لم يكن اتفاق الطائف إلا نقطة نضج وصلت لها كل الجماعات اللبنانية بعد 15 عاماً من الحرب الأهلية. وللنضج أعراض كبرى لدى المسيحيين أنفسهم خصوصا من انخرط منهم بشكل كامل داخل أتون تلك الحرب. أقرّ الاتفاق وأقرّ المسيحيون أن لبنان بلد عربي وليس ذا وجه عربي كما كانت الأعراف السابقة تردد ببلادة خبيثة. وأعاد الاتفاق توزيع السلطات وتعديل الصلاحيات بما عدّل توازنات لم تكن ترى المسيحية السياسية ضرورة لها قبل ذلك.

وما اعتُبر عبقرية خطّها الاتفاق الجديد لإنهاء المقتلة في لبنان، نُظِر إليها ونُظِّر بشأنها بأنه هزيمة للمسيحيين وتهميشاً لدورهم التاريخي العريق في البلد. انخرطت القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع برعاية البطريركية المارونية داخل اتفاق عام 1989، فيما رفض ميشال عون الاتفاق، وراحت العونية وفق ذلك تبشّر بعد ذلك بالعمل للخلاص من ظلمه.

لم يستطع كثير من المسيحيين القبول حتى الآن بأنهم يعيشون منذ أكثر من 1400 سنة داخل العالم الإسلامي. في وجدان البعض المنهم أن تلك الحال عرضية راحلة. وحتى الوصول إلى ذلك العدم الموعود، فلا بأس بعدم الاعتراف بما هو مندثر والبناء على ما هو أصيل.

والأصل في هذا العرف أن البلد مسيحي في بُعده الميثولوجي، ومسيحي في حقيقته التاريخية منذ قيام المتصرفية، ومسيحي في العودة إلى الحلم المكبوت في أن يكون يوماً وطن مسيحيي المشرق على منوال ما تسعاه إسرائيل وطناً ليهود الأرض.

في لبّ العقائد تلك ابتعادٌ كامل عما بنته البطريركية المارونية من لبنات لبناء لبنان. لم يغب الهمّ المسيحي طبعا عن روحية المنطق الذي أسس لقيام "لبنان الكبير". خرج ذلك الـ "لبنان" متجاوزاً حدود المتصرفية نحو مناطق المسلمين دون أن تصل حدود الكيان السياسي الجديد لتضم دمشق داخل حدوده.

كان جورج كليمنصو رئيس وزراء فرنسا عام 2019 يسعى لمنح المسيحيين بلداً واسع الأطراف يضم العاصمة الحالية لسوريا. بيد أن بطريركية ذلك الزمن كانت تسعى لبناء وطن مع المسلمين يحمي مسيحييه بالشراكة المتوخاة مع مسلميه. وبدا أن العبور نحو الشراكة التي ارتآها "الطائف" احتاج إلى عقود ومحن وتحولات، فيما يبدو هذه الأيام أن غراباً خبيثا يحيك منهجاً يتوسل العودة بالبلد إلى عقائد مسيحية سابقة على الاتفاق وسابقة على إنشاء "لبنان كبير" ومصادرة لحكاية قيامه.

ينفذ الوزير القواتي كميل أبو سليمان على نحو مثير للجدل القوانين اللبنانية بحق اللاجئين الفلسطينيين. وينفذ الوزير العوني جبران باسيل أحكام إعدام على اتفاق الطائف وثنايا نصوصه. فإذا ما كان الأول ينفذ قوانين هو نفسه لا يمانع في تعديلها، فإن الثاني يتجاوز القوانين وينتهك نصوص الدستور ويعمل متّكلاً على "بلطجة" يتيحها فائض القوة التي يمحضه إياها تحالف العونية السياسية مع حزب الله.

حين خرجت الإحصاءات الرسمية الحديثة بأن عدد الفلسطينيين في لبنان يتجاوز بقليل رقم الـ 174 ألفا، شككت أصوات قريبة من التيار الوطني الحر بتلك الأرقام وذهب واحد منها إلى الإعلان تهكماً بأنه سيقوم بعدّهم واحدا واحدا.

تكمن المشكلة في العدّ. هذا هاجس العونية الذي يشكل العامود الفقري لخطاب شعبوي انتهجه العمّ وينتهجه الصهر. "المسلمين كتار" كما تقول الشخصية نفسها في مسرحية زياد رحباني. وبالتالي فإن تضخّم العونية السياسية يتأسس على تخويف المسيحي من بعبع القنبلة الديمغرافية للمسلمين. وعليه فإن على المسيحيين أن يحتلوا نصف الوظائف في الدولة وإذا ما اختل ذلك فلا وظائف للمسلمين.

يُسجل للوزير السابق ملحم رياشي من حزب القوات اللبنانية الجرأة في عرض الأمر على نحو معاكس لمنطق العونية وتيارها الجارف دفاعاً عن "حقوق المسيحيين". ينطلق الرجل من حقيقة أن دور المسيحيين حضاري في شكله ومعنى وجوده ولزومية ديناميته لمسلمي لبنان قبل مسيحييه. يُسقط رياشي العدّ والعداد.

قال رياشي قبل أيام: "نريد الدور المسيحي في الدولة وليس العدد، ويعني ذلك أن من نجحوا في مجلس الخدمة المدنية وعددهم 400 ولو كانوا سامريين وليسوا فريسيين من واجبي أن أنجّحهم".

ذهب أكثر وأعاد أن "ما يهمني أكثر هو الدور المسيحي في الدولة وليس العدد المسيحي، ومسلم كفوء أفضل من مئة مسيحي غير ناجح".

على أنه يجب الاعتراف أن منطق الخوف من العدّاد الديمغرافي قد يكون مبررا لدى المسيحيين. بيد أن بناء المشاركة والحضور المسيحيين على أساس العدد قد لا يكون نهجاً حذقاً، لا بل سيعيد تذكير اللبنانيين بعدّاد سبق لرفيق الحريري الراحل أن أعلن أنه أوقفه نهائياً.

في يونيو الماضي حصل تلاسن في بعلبك ذات الغالبية الشيعية بين سيدة وباسيل الذي كان يزور المدينة ويخاطب جمعاً من أهلها. قالت: "نحن 24 شخصا ناجحين في مجلس الخدمة المدنية لصالح وزارة المالية، ومنذ سنة ونصف رئاسة الجمهورية تعرقل إصدار مرسوم التعيين وأنتم أكثر تيار طائفي، وأود أن أدعو لك أن يصحو ضميرك وتفرج عن الملف".

ردّ باسيل بالقول: "البلد سيبقى متنوعا، ونريد المحافظة على المسيحيين، وكما أنا أواجه العالم دفاعا عن حق شريكي بالبقاء في هذا البلد، على شريكي أن يقف معي كي أبقى في هذا البلد ايضاً".

بكلمة أوضح يستند باسيل الذي يطمح لقيادة المسيحية السياسية على حلفه مع حزب الله الذي يقود الشيعية السياسية. وحجّة الرجل بسيطة: "نريد تنامي حصتنا السياسية" مقابل ما يروّج له وعمّه الرئيس من خطاب مدافع عن الحزب وسلاحه.

هنا فقط المعادلة التي إذا ما انقلبت يوماً أُعيد استحضار العداد الذي بدا في الآونة الأخيرة أن أصوات شيعية تحثّ على تشغيله.