د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):
وصية شهيد..فداك يا وطني
أهدي هذا المقال إلى روح أبو اليمامة ورفاقه وكل شهداء الجنوب الذين سقطوا في كل مراحل الصراع منذ الاستقلال وحتى اليوم ...وحاول هو ورفاقه من الجيل الجنوبي الجديد إرساء قواعد دولة الجنوب وقصرنا في حمايتهم بسبب تفرقنا نحن في المقام الأول واختراق العدو لمؤسساتنا الأمنية والاستخباراتية من بعض ضعاف النفوس من الجنوبيين الذين لا زالوا رهينة الخندق الشمالي الذي لا زال ينضح بالحقد والكراهية ضد كل جنوبي ومن هذا المنطلق ومن خلال تواجد آلاف الشماليين في عدن زرع الحوثيون خلايا من الجواسيس وشكلوا تهديدا للجنوب وأهله ..إضافة إلى ذلك كله وعندما نقف بصدق وحيا دية مطلقة نجد أن الخلل فينا نحن معشر الجنوبيين وفينا الكثير من العيوب والأنانية ورضعنا ثقافة العنصرية والفرز القبلي والمناطقي والاستعلاء ومارسنا سياسة الإقصاء ضد بعضنا وانقسمنا وتفرقنا وأصبحنا أدوات مرتهنة لمن يدفع لنا أو يعدنا بالمن والسلوى فكيف نستعيد الجنوب ونحن ممزقين ؟؟؟ واستعادة الجنوب لن تتم إلا بالتضحيات الجسيمة ولن نصل بالجنوب إلى هذا المستوى من إنكار الذات كما فعل شبابنا ومنهم هذا الشاب الذي يهدكم قصته:
وطني الغالي لقد كنت مسقط جسدي الصغير الغض عندما أبصرت النور في ليلة دافئة مقمرة والسماء مرصعة بالنجوم وكنت أصرخ في البداية ثم أحسست بالدفء وسكن جسدي وعيناي الصغيرتان تحدقان في ضؤ القمر الذي كان يتسلل عبر النافذة الصغيرة وكبرت على ثراك وتغذى جسمي من خيراتك حتى نما لحمي و اكتسى عظمي فكنت نوري الذي يبصر وعيوني التي ترى وسمعي الذي يسمع وهواك عشقي ونورك ضياء عيوني وفرحة فؤادي .
نموت على ثراك كورود الربيع وزهور البشام ولو كان لي مائة روح لافتديتك بها ولم أقدر على فراقك حتى مطلع شبابي !!
ولم تكن الغربة خياري ولكنني أجبرت عليها و هاجرت ذات ليلة سوداء مظلمة شديدة البرودة وأنا أتلمس طريقي في جنح الظلام بسبب الانتفاضات وأعمال البطش والانتقام والمسيرات في السبعينيات التي يقودها الحاقدون من الدهماء والدخلاء الذين كانوا يجوبون شوارع عدن الجميلة إبان العهد الماركسي وصادروا بيوت المواطنين ونهبوا ممتلكاتهم وساقوا المئات منهم إلى السجون .
وخرجت مرغما من عدن خلسة عن عيون العسس والجواسيس !!
سرت حافي القدمين بعد أن تمزق حذائي..في الظلام الدامس .. ثم أخفاني سائق شاحنة كبيرة تحت أكوام حزم القصب حتى عبرت الحدود إلى اليمن الشمالية !!
كنت يافعا لا يقوى على فراقك يا عدن وتنقلت حتى وصلت مكة المكرمة.. وكانت خياري وقبلتي وألقيت فيها رحالي وبدأت اشق فيها طريقي .
ورغم رحيل الجسد الغض الصغير وابتعاده عنك فقد بقيت الروح معلقه في قلوب أحبتي و عناقيد الفل والياسمين وتتسلل مع غروب شمسك وتذوب في صفائح الكادي ورائحة البخور الذي تتضوع في أزقتك وشوارعك كل مساء يا عدن!!
خرجت والخوف يسكن وجداني عندما بدأت الثعابين والعناكب تخرج من أوكارها تلدغ كل جمالياتك وتنشر الموت في ربوعك في السبعينيات .. خرجت منك وفارقتك مكرها ، وظننت أنني سألتصق بالغربة في المكان الجديد وشربت العلقم بعيدا عنك وسط أحلامي المجهضة التي مهما ادعيت انصهاري في بلاد الغربة إلا إن الجسد والروح كانا ملكاً لك ولثراك وحدك !!
..وفي كل مساء تتسلل الذكريات إلى شراييني ويطل الحنين إليك من أوردة القلب المكلوم بفراقك وتتسلقين في ذاكرتي كطفلة تعبث بأوراقي وتسافر في دمي ورغم السنين التي طحنتني بألم الفراق عنك.. إلا إنني أستعيد في ذاكرتي شرفاتك وأتنفس هواك ويتسلل ضؤ مصابيحك إلى حدقات عيوني .. ويتصفح الضؤ وجوه أحبتي فيك كل ما أشرقت شمسك أو غابت عليك..!!
احن إلى ملامحك وبناياتك وتضاريس جبل شمسان وصخور العقبة في شارع أروى ومكتبة الجيل الجديد والصهاريج وأمواج البحر التي تتكسر على شواطئك في ساحل أبين وجولد مور ..!!
ويرحل الضوء معي ويطل من نوافذ بيوتك الجميلة في خور مكسر ويتسلل إلى عيوني وخلايا ذاكرتي ويواسيني في وحدتي !!
وتتساقط الدموع على وجهي وتلسعني حرارتها حتى ترتعش أهدابي كلما تذكرتك
. لم أدمن مدينة يوما مثل ما أدمنتك أنت، وأنا أتنقل في مدن الشرق والغرب وأعبر المطارات وأنت تسكنين في وجداني وتحلقين معي كحمامة بيضاء استحضر معها روائح أزقتك التي تتضوع بالبخور.. وطعامك المميز ورائحة السمك المشوي والزربيان البنجابي الشهي تتسلل رائحته وطعمه إلى أنفي وحلقي.. أتذكر قهوة زكو ورائحة الشاي العدني المميز النكهة وأصوات الباعة وضحكات الصبايا الفاتنات وهن يتجولن في الشارع الطويل ..أتذكر كل هذه التفاصيل رغم المسافات التي اختزلها شوقي إليك !!
يا عدن يا مدينة الأحلام ستظلين مسقط قلبي وخلايا وجداني والقي وضيائي وعندما تكالب عليك الطغاة والبغاة والغزاة في موجة الغزو الثانية الحوثية العفاشية عام 2015م عندما انحدروا من الكهوف والجبال من شمال الشمال ..وضاقت بنا الدنيا في الغربة عندما سمعنا أن الغزاة يدكون عدن بالمدافع وأهلها يموتون تحت الأنقاض.. ونادى فينا المنادي أن حي على الكفاح والدفاع عنها !!
هب شباب الجنوب كالأسود ورحلوا إلى عدن
ورحلت معهم تسبقني أشواقي إليك وعدنا إلى حضن الوطن تركنا الغربة والأهل والولد ..وهجرنا الحياة وحملنا السلاح للدفاع عنك قاتلنا من أجلك وسقط الكثيرون منا على ثراك وطرقاتك منهم من بترت أطرافه ومنهم من رزق الشهادة!!
حاول التتار محو معالمك التاريخية بنيران دباباتهم وصواريخهم وصبوا جام غضبهم وحقدهم الدفين على أسواقك وبناياتك وهندستك المعمارية التي تجسد روائع الحضارات!!!
أراد تجار الموت و القتل والاغتصاب احتلالك وتشويه جمالك الأخاذ عبر السنين وإذلالك وتدميرك قصفوا الحجر والبشر والشجر وأرادوا أن يسلبوا منك الحياة ويدفنوا جمالك يا سيدة المدن وترنيمة الأحلام وقيثارة العشاق !!!
ولكن هيهات فقد قاومناهم وأجهدناهم ومن أجلك رخصت الأرواح وسالت الدماء وتعفرت الوجوه بثراك الطاهر وأصبت إصابة قاتلة وكانت وصيتي مربوطة في خصري وسلمتها لصديقي ورفيق دربي وأهديتها لكل جنوبي يحب وطنه !!
وسقطت على الثرى ودمائي تنزف ...وأصوات الرصاص يدوي ويصل إلى أذني و شباب المقاومة يطاردون جحافل العدو وتحجرت عيناي وهما تنظران إلى جبل شمسان الأشم الذي يقف شامخا منتصبا وعند رؤيته تيقنت أن نصرك قريب يا وطني ثم سكنت روحي و انتقلت إلى رحاب الله.
د.علوي عمر بن فريد