خير الله خير الله يكتب:
معاقبة "حزب الله" ومعاقبة لبنان
في بلد اسمه لبنان، لم يعد فيه مكان للمنطق، ليس معروفا هل في الإمكان إنقاذ أيّ مؤسسة من مؤسسات الدولة والحؤول دون انهيار اقتصادي. لعلّ أخطر ما في الأمر أنّ هناك غيابا لأي وعي من أيّ نوع لدى كثيرين موجودين في السلطة لا يدركون معنى أن الإدارة الأميركية قررت الذهاب إلى النهاية في عقوباتها على “حزب الله” الذي لديه ثلاثة وزراء في الحكومة.
هل ستذهب الإدارة الأميركية إلى معاقبة لبنان أم تكتفي بمعاقبة “حزب الله”؟ هذا السؤال يطرح نفسه، علما أنّ هناك سؤالا آخر أهم منه بكثير هو الآتي: هل يمكن معاقبة “حزب الله” من دون معاقبة لبنان؟
من هذا المنطلق، كانت زيارة الرئيس سعد الحريري لواشنطن في غاية الأهمّية على الرغم من أنّها، في الأصل، زيارة خاصة. هناك محاولة يقوم بها رئيس مجلس الوزراء اللبناني، وهو من المسؤولين اللبنانيين القلائل القادرين على إجراء محادثات جدّية مع كبار المسؤولين الأميركيين، للحدّ من الأضرار التي يمكن أن تلحق بلبنان. لا يمكن بالطبع الاستخفاف بالكلام الصادر عن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عن أنّه أثار مع الحريري “القلق الشديد في ما يخصّ ‘حزب الله'” مؤكّدا أن “العقوبات الأميركية على الحزب وأعضائه ستستمر”.
يشير مثل هذا الكلام إلى مدى الجدّية الأميركية في التعاطي مع موضوع “حزب الله” بغض النظر عمّا يمكن أن يكون لهذا التعاطي من انعكاسات على لبنان. هناك للمرّة الأولى في واشنطن مدرسة تتصرّف بطريقة مختلفة. لا يهمّ هذه المدرسة ما الذي يمكن أن يحلّ بلبنان ما دام الهدف هو “حزب الله” وما دام هناك من يريد تغطية الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، على أعلى المستويات. هناك في واشنطن من لا يزال يعتقد أن في الإمكان التفريق بين لبنان و”حزب الله”، فيما هناك من يرفض ذلك ويرى أن لبنان والحزب جسم واحد.
المؤسف أنّ هناك فريقا مسيحيا في لبنان يساعد المنتمين إلى المدرسة الأميركية التي تربط بين لبنان و”حزب الله”. لا يعي هذا الفريق مخاطر أن يكون “حزب الله”، أي إيران، في موقع يسمح له بفرض رئيس الجمهورية في لبنان. أكثر ما لا يعيه هذا الفريق هو خطورة الدخول في المحور الإيراني وجعل لبنان امتدادا لهذا المحور الذي يبدأ في طهران ويمر ببغداد ودمشق وصولا إلى بيروت.
في الذكرى السنوية الخمسين لتوقيع اتفاق القاهرة في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1969، يبدو لبنان وكأنّه بلد يلفظ أنفاسه الأخيرة على الرغم من إثباته أنّه يمتلك صيغة فريدة سمحت له بالصمود طوال كلّ هذه السنوات. تبيّن أن لبنان ليس بلدا “هشّا” كما يقول بشّار الأسد، بل هو أقوى بكثير مما يعتقد. لو لم يكن الأمر كذلك، لما كان بقي على رجليه طوال كلّ هذه السنوات في ظلّ السلاح الفلسطيني والاحتلال السوري وكلّ هذه الميليشيات الطائفية والمذهبية التي كان هدفها الاستيلاء على جزء من الأرض والسلطة.
ما يثير كلّ أنواع المخاوف هو غياب الوعي لدى مسيحيي السلطة لخطورة ما يمثّله “حزب الله” كأداة إيرانية تستخدم في كلّ حروب المنطقة، بما في ذلك اليمن. تجاوزت هذه الفئة المسيحية كلّ الخطوط الحمر التي كان مفترضا بها أن تحترمها، بما في ذلك معنى أن تتحكّم بالبلد ميليشيا مذهبية ذات عناصر لبنانية تتلقّى أوامرها من إيران. هذا ليس سرّا ما دام الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله يكرّر المرّة تلو الأخرى أنّه “جندي” لدى الوليّ الفقيه. كيف يمكن لطرف لبناني اعتبار نفسه “جنديا” لدى الوليّ الفقيه، أي لدى “المرشد” علي خامنئي من جهة وأن يكون لديه أي همّ لبناني باستثناء استخدام البلد “ساحة” في خدمة “الجمهورية الإسلامية” من جهة أخرى؟
لا يزال لبنان يعيش في 2019 تداعيات اتفاق القاهرة، على الرغم من أنّه ألغي في عهد الرئيس أمين الجميّل ولكن ليحلّ مكانه اتفاق آخر لا يسمح لـ”حزب الله” بفرض وصايته على الدولة اللبنانية فحسب، بل بالتحكّم أيضا بكل مفاصل هذه الدولة بعدما وجد غطاء مسيحيا له. ليس صدفة أن قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني تحدّث صراحة عن امتلاك إيران الأكثرية في مجلس النوّاب اللبناني بعد الانتخابات الأخيرة التي أجريت على أساس قانون من صناعة “حزب الله”.
لا يمكن للمسيحيين في لبنان، الذين لم يترددوا في الوقوف في وجه فرقة موسيقية اسمها “مشروع ليلى” تقدّم عرضا حضاريا، أن يسقطوا إلى أدنى من الدرك الذي بلغوه. ثمّة من يقول إنّ قسما من المسيحيين اللبنانيين على استعداد دائم للتفوّق على نفسه ما دام ليس لديه من يسأل كيف يمكن استعادة حقوق المسيحيين عبر سلاح “حزب الله”؟ كيف يمكن أن يخدم المسيحيين دخولهم في لعبة إضعاف الدروز؟ كيف يمكن لهؤلاء تجاهل أن الأكثرية السنّية أخرجت السوري من لبنان في نيسان – أبريل من العام 2005، بعدما نادت بـ”لبنان أولا” لكنها لم تستطع، لأسباب معروفة من بينها انتصار “حزب الله” على لبنان في حرب صيف العام 2006، الحؤول دون سقوط البلد؟
ما الذي ستقرّره الإدارة الأميركية في ظلّ المعطيات اللبنانية المتوافرة؟ أي مدرسة ستنتصر في واشنطن؟ الأكيد أن سعد الحريري عمل كلّ ما يستطيع عمله من أجل الحدّ من الأضرار التي يمكن أن تلحق بلبنان، لكنّ تأثير جهوده سيظلّ محدودا في حال لم يحصل وعي مسيحي واستيعاب لمعنى إيجاد غطاء لـ”حزب الله” بحجة الرغبة في الانتقام من المسيحيين الآخرين ومن السنّة والدروز ومن شخص وليد جنبلاط بالذات.
لا بدّ أخيرا من العودة إلى السؤال الذي سبق طرحه. هل يمكن لأميركا معاقبة “حزب الله” من دون معاقبة لبنان؟ الأمر ممكن في حال وجد من يُفهم “حزب الله” أن لا غطاء مسيحيا لديه وأن مصلحة لبنان تتجاوز الحسابات التافهة من نوع الوصول إلى رئاسة الجمهورية… أو الاعتقاد أن الدروز صاروا في موقف ضعيف وأن في الإمكان الانتقام منهم بسهولة عبر تقسيم الطائفة التي لا زعيم آخر لها في هذه الأيام غير وليد جنبلاط، أو الاعتقاد انّه آن أوان انتزاع الصلاحيات التي أمّنها اتفاق الطائف لرئيس مجلس الوزراء السنّي. من يريد تصفية حساباته مع السنّة، إنّما يريد تصفية حسابات مع دول الخليج العربي لمصلحة إيران ولا شيء آخر غير ذلك.
في غياب القدرة على عقلنة “حزب الله”، هل من قدرة على عقلنة بعض مسيحيي لبنان من الذين لا تتجاوز ثقافتهم السياسية بضع كلمات باللغة الفرنسية لا أكثر ولا أقلّ…