أزراج عمر يكتب:

أزمة الواقع الثقافي المغاربي

لماذا لم تنجح مرحلة استقلال بلداننا في الفضاء المغاربي في بناء نموذج تكاملي يمكّن من وضع أسس العمل الثقافي المغاربي المشترك؟ وهل هناك، في أيامنا هذه، وعي جدّي بين النُخب ومكوّنات المجتمع المدني بهذا الفشل الذي أنتج وما يزال ينتج مختلف الأمراض السياسية مثل غلق الحدود، أمام المواطنين وفي وجه الرأسمال
الثقافي والفني والفكري والاقتصادي في آن واحد، وفي ماذا يتمثّل هذا الوعي ولماذا لم يتحوّل إلى فعل في الميدان؟

من الملاحظ أن راصد الحياة الثقافية عندنا يصاب فعلا بالإحباط جرّاء عدم تحقق أي شكل من أشكال الوعي العملي لدى المسؤولين على الشأن الثقافي في بلداننا المغاربية بضرورة التعجيل في بناء شرط التكامل الثقافي بين الدول المغاربية الذي يضمن تحويل المنطقة إلى قطب روحي مشترك.

بالإضافة إلى هذا فإنّ غياب الترابط الإعلامي والتربوي بينها قد أصبح عقبة كأداء تعرقل إنجاز مثل هذا القطب رغم توفّر كل عوامل الشراكة الجغرافية والتاريخية والنفسية التي لم تستثمر وتفعّل لتكون قوة دفع حيوي. وعلى سبيل المقارنة بين ماضينا وحاضرنا فإنه يبدو واضحا، مع الأسف، أنّ بعضا من التواصل الثقافي قد كان قائما بين مواطني ونُخب المنطقة المغاربية في عهد الاحتلال الفرنسي للجزائر وتونس والمغرب الأقصى، والإيطالي لليبيا وقد تميّز ذلك التواصل التفاعلي حينذاك بكونه شكلا من أشكال المقاومة الروحية الجماعية للاستعمار، وتمسّكا بالهوية الثقافية المغاربية المتنوعة القسمات؟

ميثاق الاتحاد المغاربي يتضمّن من حيث الشكل بنودا كثيرة مخصّصة للتشريع الثقافي والفكري والفني في المنطقة المغاربية، ولكن هذا الاتحاد قد بقي مشلولا سياسيا وعاطلا عمليّا

 وفي الواقع فإن سجل تضافر وتحاور أشكال التعبيرات الثقافية والقيم الروحية في الفضاء المغاربي على مدى التاريخ القديم هو نقيض ما يحدث راهنا من انقطاعات مرعبة ما فتئت تفرزها آفات الواقع ما بعد الكولونيالي، والدليل على ذلك هو أنّ الأدباء والمفكّرين والمربّين المغاربيين القدامى كانت لهم مؤسسات ثقافية وروحية مفتوحة للجميع، كما كانوا يلتقون ويتحاورون ويتعلمون من بعضهم، ولقد انعكس ذلك إيجابيا وأسفر عن تلاقح وتناصّ تنوّع أشكال الثقافة الشعبية والعالمة في المنطقة معا، في حين لا نشهد الآن أيّ نظير لها قائما فيها.

 فابن بطوطة وابن خلدون، مثلا، كانا بمثابة مواطنين مسلمين كونيين بقدر ما كانا مواطنين مغاربيين شرعيين يتحركان ويكتبان في فضاء المنطقة المغاربية بحرية بغض النظر عن جغرافيا مولد كل منهما. وفي هذا الصدد بالذات ينبغي ذكر الدور الثقافي والتربوي الموحّد لكثير من مكوّنات بنية الشعور المغاربي الذي لعبه كلّ من جامع الزيتونة وجامع القرويين، وفاس، ومؤسسات التكوين والتثقيف في الجزائر وليبيا، وكذلك في صُنع ما أسمّيه بدرع الثقافة المغاربية المقاومة المشتركة في ذلك الزمان الصعب، بعكس حاضرنا الذي تنحو فيه بلداننا إلى التفتّت والركود في عزلتها، الأمر الذي أدى وما يزال يؤدي بها إلى عدم ظهور مبادرات لتشييد مؤسسات ثقافية وتربوية نموذجية ذات هوية مغاربية
مشتركة.

مثلا، إن قراءة الواقع الأدبي المغاربي تكشف لنا مباشرة أنّ إنتاج الأدباء المغاربيين يعاني على مدى سنوات استقلال بلداننا من عدم توزيعه بحرية على المستوى المغاربي في إطار مؤسسة مغاربية تقوم بالإشراف على ذلك، هذا وتبيّن لنا انتشار نزعة غياب اتفاقية مغاربية رسمية وشعبية تقضي بتدريس منتخبات رفيعة المستوى من هذا الإنتاج في مختلف مدارس ومعاهد وكليات الفضاء المغاربي. وفي الحقيقة فإنّ إقصاء الإنتاج الأدبي والفكري والتاريخي المغاربي من المنظومات التعليمية المغاربية ومناهج الرسمية المقررة هو أخطر العوامل التي تكرّس العزلة الثقافية مغاربيّا، وتؤسس في الوقت نفسه للوطنيات المجهرية الشوفينية.

راصد الحياة الثقافية عندنا يصاب فعلا بالإحباط جرّاء عدم تحقق أي شكل من أشكال الوعي العملي لدى المسؤولين على الشأن الثقافي في بلداننا المغاربية بضرورة التعجيل في بناء شرط التكامل الثقافي بين الدول المغاربية

وفي هذا الخصوص فإنه يمكن القول إنّ سبب هذا يعود إلى سلبية السياسات الحكومية المنتهجة تجاه البعد الثقافي الذي يهمّش باستمرار، وإلى تأثير الصراعات الظاهرة حينا والمغلّفة بالدبلوماسية التي عرفها المشهد السياسي المغاربي، وإلى إعادة إنتاج هذه السياسات من طرف النُخب المثقفة العاملة في مختلف أجهزة دولنا، ومن طرف اتحادات الكتّاب التي لم تسعَ بجدّ إلى تكوين اتحاد عام للكتّاب والأدباء المغاربة، وإلى دور النشر المغاربية التي تعوّدت على إخضاع الإنتاج الثقافي والفني والفكري لمعايير وأهواء التقلّبات السياسية.

والجدير بالذكر هنا هو أنّ ميثاق الاتحاد المغاربي يتضمّن من حيث الشكل بنودا كثيرة مخصّصة للتشريع الثقافي والفكري والفني في المنطقة المغاربية، ولكن هذا الاتحاد قد بقي مشلولا سياسيا وعاطلا عمليّا منذ سنوات طويلة، وفي هذا الصدد أذكر ذلك الحوار الطويل الذي جرى بلندن مع الدبلوماسي التونسي الراحل محمد عمَامو عندما كان أمينا عاما لهذا الاتحاد حول المشكلات المحورية التي كانت تعوق إذ ذاك تفعيل استراتيجيات التكامل الثقافي المغاربي، وكان الرجل قد تفهم خلال ذلك الحوار أهمية وضرورة تنشيط جبهة العمل الثقافي المغاربي والبدء في فتح حوار جدّي مع الفاعلين في مجالات تسيير، وإبداع الإنتاج الثقافي والأدبي والفكري، ومع وزارات الثقافة والتعليم من أجل إعداد مشروع وخطة لتحيين وتطبيق تشريعات الاتحاد المغاربي ذات الصلة بالثقافة، ولكن يبدو أنّ تداعيات الظروف والتعقيدات قد عاقت وما تزال تعوق تحقيق الوعد القديم لهذا الدبلوماسي اللامع الذي رحل عنّا.