أزراج عمر يكتب:
من يسكن الآخر الشاعر أم لغة القصيدة؟
في رصده للعلاقة المتبادلة بين اللغة والشعر والتفكير والإقامة يتساءل ألبرت هوفستدتر، في مستهل مقدمته المكتنزة لكتاب مارتن هيدغر الموسوم “الشعر واللغة والفكر” الذي ترجمه من اللغة الألمانية إلى اللغة الإنكليزية، هكذا “هل يوجد هناك في النهاية أي فرق جوهري بين الشاعر الذي يفكر وبين المفكر الشاعري؟”. ثم يضيف مبرزا أنّ الشاعر ليس في حاجة إلى أن يفكر، وأن المفكر ليس في حاجة إلى أن “يخلق الشعر، ولكن لكي تكون شاعرا من الصف الأول هناك التفكير الذي يجب على الشاعر أن يستكمله، وهو، في الجوهر، نفس النوع من التفكير، الذي يجب أن يستكمله المفكر الذي هو من الصف الأول، إنه التفكير الذي يملك كل صفاء الشعر وكثافته وصلابته، وقوله هو الشعر”.
ويفهم من هذا أن الشاعر حسب مارتن هيدغر يسكن اللغة التي تسكن فيه أيضا، وكلاهما يفاجئ الآخر كما أن إقامة كليهما في فضاء الآخر ليست دائمة، وإنما هي رحيل يجر خلفه ذاكرة تلك الإقامة.
وبهذا المعنى أيضا يرى مارتن هيدغر أن اللغة “تتكلم مثل دويّ السكون” وأنها “تتكلم، وأن الإنسان يتكلم وبذلك يجيب اللغة، وهذه الإجابة هي الاستماع”.
لا شك أن النقد المعاصر يهتم باللغة كتجربة إنسانية، باعتبارها غير منفصلة عن الفكر، ونعني بذلك أن
اللغة لا تعكس التجربة أو الواقع مثلما تفعل المرآة وإنما هي تصنع الواقع أيضا على نحو جديد في النص الإبداعي. أما عن علاقة اللغة بالفكر فإنه ينبغي علينا أن نتخلى عن العادات التقليدية التي تحاول أن تقنعنا بأن الفكرة والمعنى سابقان عن اللغة التي يفترض أنها تحاول بكثير من المثابرة أن تعيّن في القصيدة العوالم المفقودة أو تسعى إلى استعادة الفقدان أو الشيء الضائع كما عبر عن ذلك مدان صاروب في رصده للعلاقة بين الذات واللغة.
وفي هذا الصدد هناك فرضية يجنح أصحابها إلى التأكيد على أن اللغة هي التي تصنع، إلى جانب شروط مادية ورمزية أخرى، المعنى وتجعله سائلا وكثير الروافد في الوقت نفسه مثلما تقوم بنفس المهمة النسبية أيضا في اختراع وهم الهوية والذات المستقرتين.
ويثير الناقد الأميركي المعاصر جوناثان كولر قضية تأويل النصوص مبرزا أنّ النقد المعاصر يرفض الركون إلى المعنى ذي البعد الواحد داخل معمار أي جنس أدبي، بل إنه يحتفل بتأويل المعاني المتعددة التي تتولد وتتلون بتنوع تجارب القراء وتجارب المجتمعات وينفر من فرضها مسبقا ومن البحث عنها في السيرة الذاتية للمؤلف. وفي هذا الخصوص يطرح جوناثان كولر أسئلة كثيرة حول ماهية اللغة الأدبية منها: هل الأدب لغة خاصة، أم إنه استخدام خاص للغة؟ وهل الأدب لغة منظّمة على نحو مميّز أم هو لغة لها امتياز خاص؟ وما الذي ينخرط في التفكير حول المعنى؟ للإجابة عن هذه الأسئلة يقدم كولر بيتين من شعر الشاعر الأميركي روبرت فروست (1874 - 1963) الشهير بقصيدته التي يحفظها معظم محبي الشعر في أميركا وهي بعنوان “المرج”.
يدعونا الناقد جوناثان كولر إلى كشف المعنى في البيتين التاليين: نحن نرقص حول دائرة وثَمَّ نفترض/ ولكن السر يجلس في الوسط.
لنفترض أن الدائرة التي يتحدث عنها البيت الأول هي الحياة بكل تعرجاتها وأننا نرقص وندور حول
هذه الدائرة ونظن أننا قد نعثر على شيء ما، أو على سرّها في أحد منحنياتها، أو في نقطة ما من محيطها، ولكن البيت الثاني يخبرنا أن السر الذي نبحث عنه لا يوجد حيث نعتقد، إنه يوجد هناك وإنما هو موجود
في الوسط دون أن يعين طبيعة السر ذاته.
هل يعني هذا أن الحقيقة والحظ يفلتان دائما من قبضتنا أم يعني أن ممارستنا للفن (الرقص في هذه الحالة) لا يقربنا ممّا تصبو إليه رغباتنا؟ وهنا نجد الناقد جوناثان كولر يتساءل مرة أخرى: ما هو المعنى هنا؟ ثمّ يوضح قائلا “هنالك فرق بين طرح السؤال حول معنى النص (القصيدة ككل) وبين طرحه حول معنى الكلمة. إنّه من الممكن أن نقول إن الرقص هو استعراض لحركات منغمة ونمطية متتالية ولكن ماذا يعني هذا النص؟ إنّه يمكن أن تقول إنه يقترح عدم جدوى الأفعال البشرية”.
هنا ذكّرنا الناقد كولر ببعض نتائج نظرية عالم اللسانيات دي سوسير التي تفترض أننا نملك “أنماطا مختلفة للمعنى، ولكن الشيء الواحد الذي نستطيع قوله هو أن المعنى يرتكز على الاختلاف”. في هذا السياق يلفت الناقد جوناثان كولر انتباهنا إلى أن كلمة “نحن” التي بدأ بها البيت الأوّل من قصيدة الشاعر روبرت فروست ليست محددة ولا تعني هؤلاء، أو أولئك، أو نحن بالذات.