أزراج عمر يكتب:
محنة اليسار الجزائري في ظل انقساماته
ينظر الرأي العام الجزائري إلى خمود الفاعلية السياسية لأحزاب المعارضة وإلى تشتتها المتسارع، في ظل تشديد النظام لقبضته على السلطة بعد التخلص من جزء مهم من عصابة مرحلة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، بعين الريبة والدهشة في آن واحد.
ومن الواضح أنَ عاصفة الحراك الشعبي التي ما تزال تخلخل بنيان الوضع السياسي الجزائري المتهالك تمكنت من الكشف عن هزال هذه المعارضة بكل أطيافها بما في ذلك أحزاب اليسار الجزائري الرسمي، مثل حزب القوى الاشتراكية الذي أسسه الراحل حسين آيت أحمد، وحزب العمال الذي تزعمته على مدى العشرين سنة الأخيرة لويزة حنَون التي تقبع الآن في السجن بتهمة التآمر على أمن الدولة إلى جانب عدد من الشخصيات الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية المعروفة وذات النفوذ مثل رئيسي الحكومة السابقين أحمد أويحيى وعبدالمالك سلال والجنرال توفيق ويسعد ربراب وعلي حداد وسعيد بوتفليقة وغيرهم.
وفي هذا الخصوص يتساءل المواطنون الجزائريون عن أسباب تخلي الشعب الجزائري عن لويزة حنون، حيث هناك من يفسر ذلك بأن عدم دفاع الأحزاب المعارضة التي تدعي الانتماء للتقاليد اليسارية مثل حزب القوى الاشتراكية وكذلك شريحة اليسار المشارك في الحراك الشعبي بواسطة المظاهرات العارمة عبر القطر الجزائري يعود إلى أن حزبها ليس له ارتباط مصيري حقيقي بالعمال والفلاحين، وهو يشبه تماما معظم أحزاب المعارضة الجزائرية.
انفراد لويزة حنَون بزعامة حزب العمال على مدى عشرين عاما، وإسناد نقابة العمال إلى شخص رأسمالي مثل سيدي السعيد كلها عوامل لعبت دورا مفصليا في تشويه اليسار الجزائري
في هذا السياق ينبغي الإشارة إلى أن اليسار الجزائري لم يتمكن حتى اليوم من التحول إلى قوة رمزية للشعب الجزائري، كما عجز عن خلق خارطة سياسية وطنية تقوم على تأسيس قطبية حزبية لها تأثير إيجابي في المشهد السياسي الجزائري خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة. مثلا أن حزب القوى الاشتراكية الذي يعتبر أهم حزب يساري جزائري تأسس بعد الاستقلال فشل في تحصين نفسه بإطارات مثقفة تملك فكرا استراتيجيا متطورا ونابعا من استلهام وتأكيد لخصائص المجتمع الجزائري، وفي تغذية صفوفه بكفاءات شابة مدربة على تقنيات تحديث وتفعيل إدارة وتسيير شؤون الدولة، وفضلا عن ذلك فقد افتقد هذا الحزب الذي طغت عليه كاريزمية شخصية أحد الزعماء التاريخيين لحركة التحرر الوطني، إلى آليات تنظيم نفسه عبر الوطن كطليعة سياسية وثقافية وفكرية مستقطبة، وهو الأمر الذي جعله يبدو كمجرد حزب جهوي يكتفي غالبا بإعادة إنتاج الأفكار الاشتراكية التقليدية على الصعيد النظري، وبتكريس عزلته تنظيميا حيث لم يصبح قوة جامعة لمختلف تيارات اليسار الجزائري بما فيه التيار الشيوعي، ونقابة العمال فضلا عن عدد مهم من جمعيات المجتمع المدني التي كان من المفروض أن تكون جزءا عضويا وصلبا من قاعدة الكتلة اليسارية الكبرى في الجزائر.
والحال أن حزب القوى الاشتراكية ليس وحده الذي ضيع الرهان التاريخي، بل هناك أيضا حزب العمال الذي ما فتئ يقدم نفسه كممثل للعمال الجزائريين ولكنه لم يفلح في تجاوز ثقافة الحزب الواحد الطاغي، الأمر الذي منعه من التحول إلى نموذج حيوي لليسار الجزائري المتطور تنظيميا واستقطابا لملايين العمال والمثقفين اليساريين ولشريحة الفلاحين المحسوبة تاريخيا على التيار الاشتراكي الوطني، وفضلا عن ذلك فقد بقي هذا الحزب المتشبث بقشور التروتسكية شبحيا وشلليا مما أصابه بإعاقة العقيدة السياسية المستوردة التي تتزعمها لويزة حنَون ولقد حال كل هذا دون ربح رهان التنمية الوطنية بكل أشكالها.
لاشك أن حدث اعتقال لويزة حنون ثم سجنها، غير المستساغ والمستهجن، ينبغي أن يحفز المحللين السياسيين للتشكيلات السياسية الجزائرية على فتح ملف المشكلات الكبرى التي يعاني منها اليسار الجزائري ماضيا وحاضرا، وفي المقدمة إنتاج وإعادة إنتاج السلوك القديم الذي تميزت به قيادات الحزب الواحد وهو حزب جبهة التحرير الوطني في مرحلة الاستقلال، فضلا عن فشله في صياغة نظرية الدولة التقدمية والحديثة في الجزائر.
اليسار الجزائري عجز عن خلق خارطة سياسية وطنية تقوم على تأسيس قطبية حزبية لها تأثير إيجابي في المشهد السياسي الجزائري خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة
ففي هذه الأيام تبرز أمام الرأي العام الوطني عدة قضايا مثيرة للجدل منها ظاهرة سكوت اليسار الجزائري على سيطرة لويزة حنون على قيادة حزب العمال لمدة عشرين عاما كاملة، علما أن أبجديات الديمقراطية التي ينادي بها اليسار الجزائري تفترض نهج أسلوب التداول على تسيير هذا الحزب وتجديد قياداته المركزية وعلى المستوى القاعدي باستمرار لتفادي تكريس دكتاتورية الزعامة الفردية التي تعتبر أحد أخطر أمراض البنية السياسية الجزائرية.
إن تسلَط الزعيم التاريخي حسين آيت أحمد على حزب القوى الاشتراكية لغاية وفاته بالمهجر السويسري، وكذا انفراد لويزة حنَون بزعامة حزب العمال على مدى عشرين عاما، وإسناد نقابة العمال إلى شخص رأسمالي مثل سيدي السعيد كلها عوامل لعبت دورا مفصليا في تشويه اليسار الجزائري من جهة، وفي تقليص حظوظه في أن يكون معيارا ديمقراطيا ونموذجا متطورا في المشهد السياسي الجزائري. وعلى أساس هذا الإخفاق يمكن لنا إدراك لماذا لم يستقطب اليسار الجزائري شرائح العمال والفلاحين والمثقفين إلى صفوف حزب القوى الاشتراكية وحزب العمال منذ إنشاء هذين الحزبين، ولقد أدى هذا إلى شلّ قوتهما السياسية وأفقدهما الفاعلية سواء في الانتخابات المختلفة أو في تسطير سياسات البلاد. وهكذا بقي حزب العمال على مدى 20 سنة مجرد ديكور في البرلمان جراء فشله في الحصول على الأغلبية، علما أن الإحصائيات الوطنية تؤكد أن تعداد العمال والفلاحين الجزائريين يشكل حصة الأسد في الوعاء الانتخابي عبر الوطن.