أزراج عمر يكتب:

ظاهرة "المناشدين" في المشهد السياسي الجزائري البائس

في مرحلة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة طفت على سطح الحياة السياسية الجزائرية عدة ظواهر مرتبطة بواقع المجتمع التقليدي، ولكنها ما تزال تشكل مفاصل مجتمع ما بعد الاستقلال، وكنّا نظن أنها قد زالت من مركب البنيات الثقافية والاجتماعية والشعورية الجزائرية أو أنها دخلت في طور الموت البطيء. وقد عمّق هذا الوهم لدى شريحة واسعة من الجزائريين تحقق بعض التقدّم المادي العشوائي والقليل الذي شهدته البلاد، خاصة في عهد الرئيس الأسبق هواري بومدين، حيث انتشر اعتقاد أن ذلك وحده كفيل بنقل المجتمع الجزائري من مرحلة البداوة إلى مرحلة تقترب من الحداثة.

تتمثل هذه الظواهر في زجّ الرئيس السابق بوتفليقة بالزوايا الدينية وتوظيفها في لعبة تسويغ الحكم، وفي مواسم الانتخابات وخصوصا في الانتخابات الرئاسية والانتخابات البرلمانية، وتبدو أيضا في نموذج العصبية البوتفليقية التي فرضت ما لا يقلّ عن 13 وزيرا من منطقة تلمسان والغرب الجزائري أثناء تشكيل الحكومات المتعاقبة، فضلا عن حشر أفراد أسرته في ممارسة الحكم في أعلى هرم دواليب الدولة ومؤسسة الرئاسة.

وفي الواقع فإنّ مرحلة بوتفليقة تم فيها إدخال تعديلات ملحوظة على الدلالات الحافة للظواهر المذكورة آنفا، وعلى المواقع التي تصنع منها العصبية وعلى نوعها المختلف عن العصبية التي نظَر لها المؤرخ ابن خلدون، وطوّر النقاش حولها عدد من الدارسين في طليعتهم المفكر ساطع الحصري الذي اعتبرها بمثابة “أنظومة تامة التكوين” في الفكر الخلدوني. ففي مرحلة بوتفليقة لم تعد العصبية تنشأ فقط من الالتحام بالنسب وصلات الرحم، كما أن دلالة هذه اللفظة لم تعد تعني نصرة ذوي القربى في الدم والنسب، وإنما صارت آلية لإنتاج ممارسات العصابة الحاكمة في مختلف أجهزة الدولة الجزائرية.

في هذه الأيام طفحت إلى سطح المشهد السياسي ظاهرة المناشدين الذين يناشدون هذا أو ذاك للترشح للرئاسيات، وفي هذا الخصوص يلاحظ أن مثل موضة المناشدة تحوّلت إلى نمط متزمّت يطبع إحداثيات المشهد السياسي الوطني، حيث يلاحظ أن المنخرطين في لعبة المناشدات يسعون، بوعي أو دون وعي، إلى نفخ الحياة في رميم رجال النظام الجزائري القدامى الذين تجاوزتهم طبيعة المرحلة الجديدة، وإلى فرضهم مجددا على الحياة السياسية سعيا إلى تكريس ثقافة ربط مصير الحكم بذا الفرد أو ذاك الفرد الآخر.

المناشدة هي أحد سلوكيات العشائرية والقبلية على المستوى المحلّي ثم الوطني تقريبا في كل مجالات الحياة. بعد الاستقلال، أصبحت المناشدة أحد أسلحة السلطة كي تستمر وتتجدد

ولا شك أن لهذه الظاهرة مرجعية تاريخية قديمة تتخلل نسيج المجتمع الجزائري مثل نمط مرجعية “عاقل” القرية الذي يُناشدُ لإدارة شؤونها بدلا من تسييرها جماعيا، ونمط إلغاء تواريخ المواطنين والجماعات. وفي هذا السياق أوضح الإعلامي الجزائري والناشط السياسي في الحراك الشعبي، إدير دحماني، أبعادا مهمة أخرى قائلا “بالطبع لهذه الظاهرة جذور تاريخية وهي لم تأت من العدم. قد يعود أصلها إلى المبايعة. وبالمناسبة فإنه من واجب المؤرخين إعادة قراءة تاريخ الجزائر بنقد هذا السلوك وتسمية الأشياء بأسمائها كما يقال، ورفع اللحاف عن قدسية تاريخ الجزائر بصفة عامة وتاريخ الحركة الوطنية بصفة خاصة. مبايعة الأمير عبدالقادر التي هي في الأصل مناشدة، ثم وفي الحركة الوطنية تمّت مناشدة الدكتور لمين دباغين لقيادة الثورة بعد رفض مصالي الحاج ومناشدة دماغ العتروس. المناشدة هي أحد سلوكيات العشائرية والقبلية على المستوى المحلّي ثم الوطني تقريبا في كل مجالات الحياة. بعد الاستقلال، أصبحت المناشدة أحد أسلحة السلطة كي تستمر وتتجدد”.

قبل تنحية بوتفليقة كانت أحزاب الموالاة تلعب ورقة المناشدة نيابة عن السلطات الحاكمة، وهي بذلك تدربت على القيام بفلكلور الترويج لبوتفليقة شخصيا للترشح، وهي تعلم أن الجيش هو الذي اختاره مسبقا، أما في مرحلة غيابه عن الحياة السياسية بسبب مرضه المزمن فإن هذه الأحزاب صارت متخصّصة في صنع أطر ضخمة بداخلها صور عملاقة لبوتفليقة، وفي رفعها بشكل مسرحي كما كانوا يأمرون بتعليقها على حيطان العمارات ونصبها في مداخل التجمّعات السكانية الكبيرة، وتواصل هذا السيناريو الفلكلوري حتى اللحظات الأخيرة من وجود بوتفليقة الشكلي في منصب رئيس الدولة. أما بعد تنحيته فقد ظهر مناشدون من طراز آخر تولوا مناشدة الرئيس المتقاعد اليامين زوال، وبعد ذلك ازدحموا أمام باب بيت رئيس الوزراء الأسبق مولود حمروش وناشدوه للترشح لمنصب الرئيس، ولكن الرجل اعتذر تاركا نافذة مفتوحة لإمكانية ترشحه.

وفي هذا الصدد يلاحظ أن جميع مناشدات المناشدين (وأغلبهم ذكور) قد انفردت بالسياسيين القدامى المحسوبين على النظام الجزائري، ومن الغريب أن هؤلاء لم يناشدوا أيّ أستاذ بارز، أو شخصية مثقفة مستقلة لها وزن في المجال العام، أو أيّ إطار وطني له، أو لها، مكانة مرموقة في المؤسسات الوطنية الكبرى أو في منظومة الجمعيات والاتحادات والروابط التابعة للمجتمع المدني المستقل. وهكذا حصرت المناشدات في فئة الذكور ويوضح هذا التوجه أن الحياة السياسية الجزائرية الحقيقة هي ظاهرة ذكورية بامتياز.

ولا شك أن الحراك الشعبي الجزائري يرفض المناشدين وفي هذا الخصوص أكد الإعلامي الجزائري إدير دحماني أن “الحراك الشعبي يرفض من كانوا في السلطة ويطالب منذ البداية وبسلمية برحيل هؤلاء، وجاء هذا المطلب بصيغتين وهما: التعميم أي رحيل كل أفراد العصابة ورؤساء الأحزاب ورؤساء بعض الجمعيات وكل الموالين للسلطة، والتخصيص أي طلب رحيل أشخاص بعينهم ويطول ذكر أسمائهم، وقد طرد شباب الحراك عددا من هؤلاء في عدة مسيرات، وبالتالي فإن مناشدة هؤلاء هي حلقة من الثورة المضادة ومحاولة لإطالة عمر نظام فاسد.