د. حسن بن عقيل يكتب لـ(اليوم الثامن):
روسيا تفرض وجودها في القرن الإفريقي و دول الخليج
تحمل الزيارة القريبة للرئيس الروسي الى المملكة العربية السعودية معاني كبيرة و مفاهيم واسعة في كل ملفاتها .خاصة انها تأتي في فترة تشهد فيها قوى التحالف السعودي ــ الإسرائيلي ــ الإماراتي إنتكاسات على كل الجبهات.
منطقة الشرق الأوسط تحظى بأهمية اقتصادية و عسكرية و ثقافية و سكانية جعلها ساحة تنافس في السنوات الأخيرة . أهم خمس دول إقليمية تتصدر التنافس الاستراتيجي على قيادته هي تركيا و إيران و إسرائيل و السعودية و مصر . بدأ الصراع السياسي ــ العسكري بينهم علنا بعد الثورة الاسلامية في إيران ، إزداد حدة بعد دخول القوات الروسية الى سوريا 2015 . للمفارقة هذا التدخل العسكري الروسي في سوريا أكسب الرئيس بوتين إحتراما و تقديرا في أوساط قادة الخليج بسبب موقفه الصادق و الثابت من حليفه نظام الأسد و محور المقاومة الإيراني ــ الشيعي ، رغم معارضتهم الشرسة في بادئ الأمر للتدخل الروسي . تنامى تأثير بوتين في ظل الموقف السياسي ــ العسكري للولايات المتحدة و الغرب المتردد من القضية السورية و خذلان أكراد العراق و سوريا و الموقف من القضية الفلسطينية . بينما موقف بوتين الرافض للمساومة في موقفه من الرئيس الأسد و أبقى عليه في السلطة و كذا موقفه الثابت من محور المقاومة . هذه المواقف البوتينية ساعدت حكام المنطقة بأن تغير سياساتها تجاه روسيا و التفكير في الإبتعاد من الولايات المتحدة على ما يبدو . لكن خوفهم من المجهول هو العائق . يتطلب من الروس دراسة اسباب الخوف و وضع الحلول الآمنة لها . ثانيا على ما يبدو أن دول الخليج الآن ترى ان خيارها الوحيد يتمثل في التعامل مع بوتين و حلفائه من الأسد و إيران .
القوى الاقليمية الفاعلة في المنطقة هي إيران ، تركيا ، السعودية . مصر غير مؤهلة حاليا ، إسرائيل قوة فاعلة لكن هي دولة غير عربية أو إسلامية ، هي منبوذه و غير مقبولة في الشرق الاوسط ، الا تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي و هذا ما تسعى للحفاظ عليه .
السعودية مؤهلة ان تصبح أهم قوة اقليمية عربية في الشرق الأوسط ، بعد غياب العراق ، سوريا ، مصر ، و تأثر فيه إيجابا . منذ تولي الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد في عام 2017 ، أعطى إشارات عن البدأ في احداث بعض التغييرات في ثقافة و أواويات البلاد ، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي . ففوائضها النفطية الهائلة و مساحتها الكبيرة و رمزيتها كقلب العالم الإسلامي و احتفاظها بالمقدسات في مكة و المدينة و تحالفها مع الولايات المتحدة و الآن مع الاتحاد الروسي ( إذا حصل ) كل هذه العوامل سوف تجعلها قطبا اقليميا فاعلا في المنطقة . خاصة إذا خرجت السعودية من تحت مظلة التبعية الأمنية المطلقة للولايات المتحدة الأمريكية ، أو التنوع في شراكاتها الاقتصادية و الأمنية ، بحيث لا تكون معتمدة بشكل كلي على واشنطن . خاصة بعد الاحداث الأخيرة التي نشهدها في علاقة واشنطن المتذبذبة مع حلفائها ، مثلا مع أكراد العراق و سوريا و كذا مع تركيا . واشنطن لا يوجد لها حليف في الشرق الأوسط عدا إسرائيل .
لكن الأخطاء التي حصلت في عهد الأمير محمد بن سلمان شكلت عبئا على المملكة . منها حملة حصار ضد قطر و حرب اليمن و الاعتقال المؤقت لرئيس وزراء لبنان ، ثم حملة مكافحة الفساد التي بدأت في عام 2017 اعتقلت فيها السلطات السعودية عددا من الأمراء و كبار رجال الأعمال و هذا أدى الى اثارة مخاوف المستثمرين الأجانب من دور القانون في المملكة . في عام 2018 دخلت السعودية في خلاف دبلوماسي مع كندا ، بسبب تغريدة بسيطة حول سياسات الرياض تجاه حقوق الإنسان . ثم كان بالطبع السخط العالمي على جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول .
في هذه الظروف تأتي زيارة الرئيس فلاديمير بوتين الى المملكة العربية السعودية . وفقا لما كتبته كوميرسانت 2019.06.10 إنه تم إعداد العديد من الاتفاقيات لزيارة الرئيس الروسي الى الرياض . التي من المتوقع خلال الزيارة ان يتم التوقيع على العديد من الاتفاقيات .
آليات لتنفيذ سياسة الشرق أوسطية لروسيا
من المسلمات ان يدير سياسة الشرق اوسطية في روسيا ، هي وزارة الخارجية الروسية . حيث يوجد بها الخبراء السياسيين المحترفين و المؤهلين و المدربين بشكل جيد . و على رأسهم سيرجي لافروف ، وزير خارجية روسيا من 2004، الذي يصفه الدبلوماسيون الغربيون بأنه محترف ، ماهر، ذو خبرة عالية و لديه ذاكرة رائعة للتفاصيل و قدرة على المناقشة و الاقناع ، و كذا ميخائيل بوغدانوف الذي يشرف على دبلوماسية الشرق الأوسط ، أحد نواب لافروف ، و كمبعوث شخصي لبوتين في الشرق الأوسط و شمال أفريقيا . بوغدانوف متحدث باللغة العربية و هناك مجموعة رائعة و كبيرة في وزارة الخارجية من تعرف لغة العرب و تاريخ و عادات و تقاليد و أعراف أبناء هذه المنطقة . الا أن وزارة الخارجية ليست من هياكل صنع القرار .لان الهيكل الذي يتخذ القرار مختلف تماما ، و يعتمد على نوع القضية . قد يكون مجلس الأمن في الأتحاد الروسي أو مجموعة معينة من الناس داخل مجلس الأمن . قد يتم التعامل مع بعض القضايا من قبل الرئاسة أو من قبل أشخاص معينين في الرئاسة ، أو في الواقع من قبل الرئيس نفسه . مجلس الأمن ــ هيئة استشارية يعينها و يرأسها الرئيس . تتولى مهمة التخطيط الاستراتيجي الشامل . نفوذ المجلس قد نما في السنوات الأخيرة ، حيث أصبح دوره تقريبا في كل مجال من مجالات صنع السياسة الروسية . حسب رأي الباحث الروسي يوري بارمين ، يقول إن كبار الشخصيات العسكرية و الاستخبارية تعطي الأولوية للأهداف الإيديولوجية و العسكرية الاستراتيجية على الخيارات الاقتصادية المستدامة . بالطبع العمل الدبلوماسي منهج معمول به في العلاقات بين الدول ، روسيا لا تخرج عن هذه القاعدة . لكن عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط ، لا يلعب الدبلوماسيون الدور القيادي . منذ تدخل بوتين في سوريا عام 2015 قامت وزارة الدفاع الروسية إلى حد كبير بتطوير العلاقة السياسية مع سوريا ، حيث طغى مقرالقيادة العسكرية الروسية في حميميم تماما على دور السفارة الروسية في دمشق .
المملكة العربية السعودية و روسيا الاتحادية في مجال التعاون الأمني – الاقتصادي .
بعد غزو الاتحاد السوفيتي لافغانستان 1979 كشرت الولايات المتحدة انيابها للدفاع عن مصالحها في منطقة الخليج العربي . على أثرها جاء مبدأ كارتر Carter Doctrine ردا على الغزو . إذ أعلن الرئيس كارتر ان هذا الغزو يشكل " تهديدا خطيرا لحرية حركة نفط في الشرق الأوسط " . روسيا البوتينية خرقت مبدأ كارتر و كرست سيطرتها الإستراتيجية في الخليج العربي . لتأكد ان نشاطاتها لا تشكل تهديدا على حركة النفط . لتعزيز هذا الموقف قامت القيادة الروسية بإجراءات حازمة و فعالة بالتعاون و الدعم و المشاركة من جميع الذين يعتمدون على النفط من الشرق الأوسط مثل الصين و الهند و غيرهما ، الذين يشعرون بالقلق من عدم الاستقرار في المنطقة . روسيا تتعاون و تتشاور مع دول المنطقة ، التي هي ايضا تتعرض للابتزاز و التهديد من التواجد الأمريكي في المنطقة . لمواجهة هذا التحدي يتطلب إرادة وطنية ، و حكمة سياسية و دبلوماسية من دول المنطقة .
عمليا روسيا قد بدأت بالخطوات العملية لفرض تواجدها في القرن الأفريقي و دول الخليج العربي ، وسعت الى توسيع نفوذها في منطقة البحر الأحمر بهدف تعزيز طموحاتها كقوة عظمى على حسات الولايات المتحدة و الغرب . و في هذا الإطار ، بعث الرئيس الروسي وزير خارجيته سيرجي لافروف في مطلع مارس بجولة في دول الخليج ، اجتمع خلالها بكبار المسؤولين في عواصم السعودية و قطر و و الكويت و الإمارات . و تطرقت المحادثات الى كل شيئ بدءا بالتجارة مرورا بكرة القدم و وصولا إلى سوريا و الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني و الأمن في المنطقة . بعد ذلك ، أعلن بوغدانوف عن القمة الروسية – الأفريقية المقبلة ، و هي الأولى من نوعها ، المقررعقدها في أوكتوبر . دعا بوغدانوف دول أفريقية للمشاركة في هذه القمة و هذا يؤكد وجود و إسهام و دعم موسكو للقضايا الأمنية و توطيد السلام و الروابط الثنائية بين روسيا و هذه البلدان . كتبت صحيفة " كوميرسانت " الروسية ان هذه الرحلة لسيرجي لافروف كانت مقدمة لجولة خليجية محتملة سيجريها الرئيس فلاديمير بوتين في وقت لاحق من هذا الشهر .
طوقت جولتا سيرجي لافروف و ميخائيل بوغدانوف منطقة واسعة يسمح لروسيا بمد نفوذها العسكري – السياسي على كل الحدود الجنوبية لحلف " الناتو " . و قد كان الدور الإماراتي فعال في مساعدة الكرملين في خططها لبناء مركز خدمات لوجستية في إريتريا ، ذلك من خلال دورها في اتفاق السلام بين إريتريا و إثيوبيا . يقع في إريتريا أهم مرفأين " عصب و مصوع " عند نقاط استراتيجية على البحر الأحمر . تتحدث مصادر روسية الآن عن دأب الكرملين لإنشاء قاعدة له في السودان . هل ستقوم السعودية ..أم الإمارات بمساعدته ؟ كذلك تسعى روسيا الى التوسع في القرن الأفريقي و جنوب اليمن . نعلم في السنوات القليلة الماضية سعت دولة الإمارات الى تأكيد مكانتها في هذه المنطقة . حيث أنشأت مراكز عسكرية و تجارية في جنوب اليمن و ازاحت السعودية و قوات أنصار الله . فهذه المنطقة مهمة بالنسبة لروسيا . فقد وقعت موسكو اتفاق شراكة استراتيجية مع أبوظبي في يونيو الماضي . هل هذه الشراكة سوف تساعد روسيا في إمتلاك جزر يمنية جنوبية ؟ أعتقد أنصار الله سوف تقاوم ، وكذا للسعودية قول في هذه المسألة .
للمملكة العربية السعودية تجربة في التعامل مع موسكو . روسيا منذ تدخلها عسكريا في سوريا 2015 ، عملت مع إيران و تركيا و إسرائيل في سوريا ، و احتفظ بعلاقات مع قطر و الإمارات و و مجموعة من الدول الاخرى – والعديد منها معاد لبعضها البعض لكنها صديقة لروسيا .
ينبع اهتمام بوتين الشديد بتنمية العلاقات الرسمية مع السعودية لضمان الحصول على استثمارات خليجية لدعم اقتصاد روسيا . كما أكد الوزير الروسي ألكساندر نوفاك انه في المستقبل القريب ، يمكن ان تبدأ السعودية بالاستثمار في روسيا في مجال البتروكيماويات و إنتاج الغاز الطبيعي المسال و إنشاء مراكز بحث مشتركة . كما ان روسيا و السعودية اتفقتا على تمديد اتفاق أوبك + لخفض إنتاج النفط . وقال دميترييف في مقابلة مع " كوميرسانت " في اوائل يونيو إن أوبك + جلبت 7 تريليونات روبل من الإيرادات الى الميزانية الروسية و أدت إلى زيادة في أرباح النفط بأكثر من 25% .
و أكد رئيس شركة " روساتوم أوفرسيز " يفغيني باكرمانوف : انه في إمكانيات كبيرة لمشاركتهم في تنفيذ برنامج الطاقة النووية السعودي . منذ اكتوبر 2017 تشارك Rosatom في حوار تنافسي حول بناء أول محطة للطاقة النووية في السعودية . و قال المدير العام لمؤسسة الدولة أليكسي ليكهاشيف للصحفيين هي منتدى أتومكسبو 2019 في سوتشي في أبريل الماضي إن روساتوم تتفاوض مع السعودية حول إمكانية بناء وحدات طاقة نووية منخفضة الطاقة هناك .
و صرح ايضا الجنرال سيرجي شويغو في اجتماع مع نائب وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان آل سعود بأن روسيا ملتزمة بالتطوير التدريجي للتعاون الثنائي في مجموعة واسعة من القضايا في المجالين العسكري و العسكري التقني للمملكة . في الوقت نفسه ، أكد الجنرال سيرجي شويغو أن العلاقات المتينة على أعلى مستوى تساهم بشكل أساسي في الحوار البناء بين الإدارتين العسكريتين . يعلم الكرملين اهتمام قادة الخليج في السلاح الروسي ، وهو يشجعهم على إبرام اتفاقات مع صناديق الثروة السيادية التي من شأنها تعزيز أجندة موسكو فضلا عن تنظيم مجالس أعمال و معارض جوالة تكون بمثابة منابر للصفقات التجارية الروسية – العربية . لكن نجاح الكرملين مرتبط بكيفية استجابة القادة الخليجيين للسياسة الروسية ، و الدور الذي تقوم به روسيا لنفسها في الشرق الأوسط .
كاتب ومحلل سياسي يمني