أزراج عمر يكتب:
مصطلح "الجليل" السامي بين الفلسفة والجمال
بادئ ذي بدء ينبغي التمييز بين مصطلح السامي (الجليل) وبين مصطلح التسامي من أجلك التخلص من الخلط بينهما. فالتسامي (Sublimation) مفهوم ينتمي إلى حقل التحليل النفسي، وفي هذا الخصوص يرى المفكران الفرنسيان لابلانش وبونتاليس أن ذلك يحيلنا إلى فرويد حيث افترض أن التسامي يهدف من وراء ابتكاره لهذا المفهوم إلى “تبيان النشاطات الإنسانية التي لا صلة ظاهرية لها مع الغريزة الجنسية، ولكنها تستقي مددها من قوة النزوة الجنسية”. كما يبرزان قائلين “ولقد أطلق فرويد وصف التسامي على النشاط الفني والاستقصاء الذهني” على أساس أن التسامي يطلق على “النزوة الجنسية بمقدار تحولها إلى هدف غير جنسي، حيث تستهدف موضوعات ذات قيمة اجتماعية ويعني ذلك أن التسامي هو عملية نفسية من خلالها وبواسطتها نوجه الاندفاعات الجنسية البدائية إلى نشاطات مقبولة اجتماعيا أكثر”.
ويتم إنجاز عملية التسامي عن طريق آليات مثل التحويل، وتحرير النشاطات من التوترات الغريزية، وهكذا فإنّ “التسامي هو الاسم (المصطلح) الذي نعطيه لعملية تحويل الغرائز إلى هدف جديد غير جنسي، ويدعو فرويد ذلك بعملية نزع الجنسية عن الغريزة البدائية. هنالك نقطة أخرى جديرة بالذكر هنا وهي أن التسامي يعتمد على الترميز، وهذا يعني أن التسامي يأخذ دائما شكلا، ويصبح إنتاجا إبداعيا في صورة قصيدة أو تمثال، أو قطعة موسيقية أو ممارسات ذات نفع اجتماعي.
أما السامي (الجليل) فله معنى مختلف وتاريخ مختلف حيث إنه ينتمي إلى حقل الفلسفة وعلم الجمال. ويلاحظ المرء أن عدة تعريفات قد أعطيت لمصطلح التسامي ويمثل هذا التعدد أحد مصادر الارتباك خاصة وأن تعدد التعريفات قد يحول دون وضع مفهوم موحد للمتسامي. ففي معجم أكسفورد للمصطلحات الأدبية لمؤلفه كريس بولدك نجد التعريف التالي؛ وهو “أنّ المتسامي (sublime) هو خاصية الشعور بالخوف من الشيء الضخم سواءً في الفنون أو في الطبيعة”.
فلاسفة ما بعد الحداثة تمكنوا من البرهنة على عدم قدرة الخيال البشري على تمثل كل مظاهر الطبيعة
يبدو واضحا أن تعريف كريس بولدك ذو بعد واحد وناقص لأنه يقصي الأعمال البشرية التي تولّد الإحساس بالسامي (الجليل)، ولا شك أن إيمانويل كانط انتبه منذ أكثر من قرن من الزمن إلى هذه القضية، وقد أورد ذلك في كتابه الشهير نقد ملكة الحكم، وفي كتابه ملاحظات حول الشعور بالجميل (أو السامي)، حيث عرّف السامي (الجليل) على أساس أفعال البشر، والفنون، والطبيعة معا، وفي هذا الصدد قال “إنّ الفهم هو السامي، كما أن الشجاعة هي السامي. فالصداقة لها خصائص السامي، ولكن الحب الذي يحصل بين الرجال والنساء ينتمي إلى مفهوم الجميل، ولكن الحنان، والاحترام يمنحان الجميل صفة من صفات السامي”.
هناك نوعان من السامي (الجليل) ويدعو كانط النوع الأول بالسامي الرياضي، ويعرّفه بأنه “الشيء الضخم على نحو مطلق، وهو ما لا يمكن أن نجد له ما نقارنه به”، أما النوع الثاني فيسميه بالسامي الديناميكي، وهو القوة المتفوقة على كل العراقيل” بما في ذلك الخيال البشري، وهذا النوع “لا يوجد أو متضمن في الطبيعة، وإنما يوجد في أذهاننا فقط”. وفي تقدير المفكر البريطاني كريستوفر نوريس فإنّ “السامي هو ذلك الذي يتجاوز جميع قوى التمثيل المحدد والحاسم عندنا، وهو التجربة التي لا نجد لها فهما حسّيا ملائما أو صيغة مفهومية”. ويعني هذا أن السامي (الجليل) وفقا للمفكر الفرنسي جيل دولوز هو “ذلك الشيء الذي نعجز عن تمثيله أو إيجاد مفهوم له ويحصل هذا الأمر عندما يواجه الخيال بحدوده الخاصة به، ويفرض عليه أن يجهد نفسه حتى النهاية معانيا عنفا يمدده إلى أقصى قوته، والواقع أن الخيال في مثل هذه الحال يصاب بالانهيار وبالعجز التام عن الاستيعاب”، وخاصة عندما “يفشل في إيجاد مفهوم للحدس، إذ ذاك بالذات تحدث ولادة السامي”.
ويؤكد المفكر ستيوارت سيم في تحليلاته لكتابات ليوطار المكرسة لمفهوم السامي (الجليل) أنه يمكن لنا النظر إلى “فشل الخيال البشري في إيجاد مفهوم لبعض الظواهر، أو الترميز لها أي إدخالها في إطار العلامة اللغوية كدليل على انهيار بعض مزاعم الحداثة الغربية التي ادعت أن بمقدورها أن توحّد الفلسفة، وذلك بإقامة المصالحة بين الطبيعة وبين الحرية”.
لا شك أن هذا النقد للحداثة الغربية يتضمن الإشارة إلى محدودية عصر التنوير الأوروبي الذي ادّعى مفكروه وفلاسفته أن للعقل البشري قدرة كلية تمكنه من إيجاد مفاهيم كلية للطبيعة، وللإنسان والتاريخ، ولكن التجارب قد أثبتت ما يناقض زعم فكر عصر التنوير وأوهام الحداثة الغربية، ولعل اكتشافات التحليل النفسي للاوعي البشري باعتباره يملك سلطة التمرد على العقلانية وعلى المفاهيم الجاهزة دليل على ذلك.
وقد تمكن فلاسفة ما بعد الحداثة من البرهنة على عدم قدرة الخيال البشري على تمثل كل مظاهر الطبيعة، وحركة التاريخ. ففي المجال السياسي الأيديولوجي مثلا يتساءل ليوطار “هل توجد البروليتاريا فعلا؟”، إنّه ينفي وجودها بالمعنى الماركسي. ويبرر ليوطار ذلك بقوله إن البروليتاريا كمفهوم موجود في الذهن وذلك أمر مقبول، ولكن البروليتاريا كواقع شيء لم يتحقق بعد بصفة عامة، وعلى نحو يمكننا أن نساوي بين المفهوم المتكون أصليا وقبليا في أذهاننا، وبين شظايا العمال في العالم.