د. ياسين سعيد نعمان يكتب:

الحوار.. مشروعاً يمنياً لمغادرة مشاريع غلبة عطلت بناء الدولة

شاركنا في مؤتمر الحوار، وعملنا على إنجاحه بمعية فريق الحزب الاشتراكي وآخرين ممن بذلوا جهداً عظيماً من أجل ذلك.

دافعت عن المؤتمر، وانتقدت التشويه الذي تعرض له، كما عارضت ما مورس في محطات منه، بما في ذلك ما حدث في محطته الأخيرة، من تكتيكات حملت روائح الماضي.

وتعرضت بسبب ذلك لحملات إعلامية وتحريض، وخاصة بعد أن تبنى الحزب الاشتراكي دولة اتحادية من إقليمين، كعنوان لإصلاح مسار تاريخي.

وأخذت هذه الحملات تشتد بعد ذلك في حلقات مترابطة من التلفيقات وضجيج المراهقات السياسية والأيديولوجية التي كانت تضخ كذباً من قاعة المؤتمر، ومع ذلك تمسكنا بنتائج الحوار، وأخذت أدعو إلى مقاومة كل محاولات إضعاف قيمته، أو إفراغ نتائجه من مضامينها الثورية والمدنية.

وواصلت الدعوة إلى تصحيح ما خربته اللحظات الأخيرة من المؤتمر، لأن الحوار بالنسبة لي هو مشروع العمر منذ أيام الشباب في بواكير الحياة السياسية في ثانوية خور مكسر بعدن في ستينات القرن الماضي، حيث كنت لا أرى السياسة غير حوار لا يهدأ، وحتى في محطات الصراعات التي ينتصر فيها طرف وتهزم أطراف أخرى.

وأثناء مناقشة الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجة في لجنة برئاسة نائب الرئيس يومها عبدربه منصور هادي، وعضوية محمد سالم باسندوة، عبد الكريم الارياني، أبوبكر القربي، محمد اليدومي، ياسين سعيد نعمان، بحضور المبعوث الأممي جمال بن عمر، لم يكن "الحوار" مطروحاً على جدول الأعمال، وتقدمت بمشروع "الحوار الوطني الشامل"، تشارك فيه كل القوى السياسية وقوى المجتمع المدني حتى لا تبدو ثورة فبراير وكأنها قد أفرغت في اتفاق ثنائي بين المؤتمر الشعبي والمشترك لاقتسام السلطة.

كانت هناك ضرورة موضوعية ل"عقد اجتماعي" لدولة مدنية، وهو ما أنجزه الحوار بقدر كبير من المسئولية.

لم يكن الحوار مشروعاً أممياً، كما يدعي البعض، الحوار كان مشروعاً يمنياً تم استخلاصه من الحاجة الموضوعية لمغادرة مشاريع الغلبة التي عطلت بناء الدولة.

كان الحوار بالنسبة لي مشروع حياة وأنا أشاغب الرئيس سالمين رحمه الله، وكان مسؤولاً عن منظمة التنظيم السياسي الجبهة القومية / فرع عدن، وكنت عضواً فيها ومسؤولاً عن الشئون الاقتصادية خلال الأعوام 1971 / 1975، بضرورة الحوار مع معارضي الجبهة القومية.

في حي من أحياء السيدة زينب في القاهرة عام 1969، كنت أحضر على نحو منتظم مع عدد من طلاب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية أمسيات شعرية لأمل دنقل، وكثيراً ما كانت أمسياته تتحول إلى نقاش سياسي وثقافي رفيع المستوى، ظل ذلك النقاش يخصب في نفسي أهمية الحوار كقيمة إنسانية، قبل أي شيء آخر.

كان سالمين قائداً يدير التناقضات من حواليه ولا يفرض قناعاته، ربما لجأ إلى ذلك في وقت لاحق عندما اشتدت ضغوط المشكلات.

سألته في أحد الاجتماعات، لماذا لا يحاور تنظيم الجبهة القومية كل من اختلفوا مع النظام آنذاك؟!

هب فوقي بعض أعضاء لجنة المحافظة، لكن سالمين قال بلهجته المعروفة: كلام بن نعمان صح، بس يقول لنا مع من نتحاور بالضبط!!، وهي نفس العبارة التي سمعتها بعد خمس وثلاثين سنة من زملاء في المشترك، عندما ناقشت معهم فكرة الحوار الشامل مع مختلف القوى السياسية خارج المشترك.

كان لي صديق من شبوة كثيراً ما حدثتي، ونحن طلبة في جامعة القاهرة، عن أحداث كثيرة كانت تجري يومذاك في شبوة، والتي كان يطلق عليها المحافظة الرابعة.

أدت تلك الأحداث إلى نتائج اجتماعية وسياسية سلبية شوهت مضامين الثورة على أكثر من صعيد، حيث ترك الكثير من أبناء المحافظة ديارهم وغادروا.

طلبت من سالمين أن يسمح لي بالذهاب إلى شبوة في نفس اللحظة التي أكمل فيها عبارته "مع من نتحاور.." استغرب طلبي، ولكنه لم يسألني لماذا؟ فقدكان يعرف ما الذي تعنيه شبوة في ذلك الحين.

بعد أن وافق، اتصلت بذلك الصديق الذي جاء من منطقة درب الفلاحين - درب آل بو طهيف.

والتقينا في المحفد، ومنها تحركنا إلى عتق، وزرنا يشبم والصعيد وخورة ومرخة السفلى والعلياء وحطيب والهجر ونصاب وعرمة، ومررنا على كور العوالق في رحلات يومية مضنية، وزرنا بيحان وعسيلان ووصلنا إلى قريب البلق، وعدنا إلى النقعة وعزان وميفعة وبير علي وعين.

سجلت في زيارتي تلك وقائع كثيرة، منها تلك الربوع المهجورة، والتي خيم عليها السكون، وبدت مبانيها كوشم أخذ الزمن يمحو ملامح خطوطه من على ظهر كفٍ تغضن جلده بقسوة الحياة..

سلمت نتائج زيارتي لشبوة، للرئيس سالمين، وما زلت أحتفظ بنسخة منها.

وفيها قلت "إن العودة إلى الحوار هو الوحيد الذي سيفتح طريقاً إلى قلوب لن يترك اليأس أمامها من سبيل سوى المقاومة".

بعد أسبوع، وأثناء اجتماع لجنة المحافظة (تنظيم الجبهة القومية) تحدث سالمين مخاطباً الأعضاء قائلاً على نحو مفاجئ:

"با نرسلكم يا أعضاء لجنة المحافطة إلى سقطرى، كل واحد يبقى لمدة شهرين هناك، والجدول با يطلعكم عليه نائب سكرتير اللجنة الاخ علي سالم لعور".

كنت على رأس القائمة.. وكان علي أن أغادر إلى سقطرى مع أول طائرة أي بعد أسبوعين على الأقل.

في الاجتماع الذي أعقب القرار، قلت لسالمين: وقع علي الاختيار في أن أكون أول الذاهبين إلى سقطرى، ما المطلوب عمله في سقطرى!! قال: شوفوا أحوال الناس، وعيشوا مشاكلهم، واقرأوا وفكروا في الأشياء التي ما قدرتمش تفكروا فيها هنا في الزحمة، هناك هدوء.

لم أعتبر ذلك عقاباً، بينما خالفني البعض.

لا أدري لماذا كان عندي اعتقاد أنه كان لسالمين هدف آخر.

حاولت أن أربط بين تقريري حول شبوة وحديثي عن الحوار يومذاك وقرار ذهابنا إلى سقطرى، ولكنني كنت أستبعد الربط وذلك برومانسية الشاب الذي كان يرى المستقبل بعيون لم تكن قد جرحتها قذى الأيام، ناهيك عما كان يمثله سالمين من رمزية وطنية لا يطالها الشك.

أمضيت في سقطرى قرابة الشهرين بين الجبل والبحر، معظمها في "حديبو" لصعوبة الحركة إلى مناطق أخرى، عدا "نوجد"، التي كان علينا أن نقضي فيها أياماً لافتتاح فرع لشركة التجارة الداخلية قبل موسم الرياح التي كانت تغلق فيها الجزيرة ستة أشهر ابتداءً من مايو، وهو ما يسمى عند الصيادين بموسم الأزيب.

أما "قلنسية" على الساحل الشرقي من الجزيرة فقد تعذر علينا زيارتها بعد أن تعطلت السيارة في وسط الطريق وعدنا إلى حديبو مشياً، ثم على سيارة للجيش مرت بالصدفة.

وعندما أردنا أن نزور جزيرة عبد الكوري قالت لنا السلطة المحلية إن هناك مخاطر، حيث إن الصيادين الصومال يقومون ببعض التحرشات حول جزر عبد الكوري وسمحة ودرسة.

الجبل المطل على ساحل حديبو، وهو المحمية الكبرى في سقطرى قبل أن يخترقه الطريق الاسفلتي الذي يمتد من المطار حتى المعسكر الذي أقيم وسط الجبل بعد الوحدة، كانت لنا معه حكاية وهي أنه في أول محاولة لزيارة إحدى قراه المتناثرة داخل الأحراش، مشياً على الأقدام، وجدنا البيوت خالية من الناس فقد فروا إلى زاوية في إحدى شعاب الجبل عندما رأونا قادمين.

وكانت إحدى أهم مشاكل السلطة المحلية هي صعوبة توطين سكان الجبل الذين ظلوا ينفرون من أي غريب لفترة طويلة.

لم تكن سقطرى يومذاك مكاناً للتأمل، إلا بمقدار ما تكون قادراً على أن تغمض عينيك وفؤادك عن معاناة الناس في تلك الفترة المبكرة.

كانت البعثة السوفيتية التي تنقب في انثروبولوجيا سقطرى ولغتها قد أنشأت مكتبة صغيرة احتوت على مجموعة من الكتب والروايات المتنوعة منها روسية على ما أتذكر: الاخوة كارامازوف، الجريمة والعقاب، كيف سقينا الفولاذ، آنا كارينينا.. ومجموعة تشيخوف، "وداغستان بلدي أنا" لرسول حمزاتوف، وأخرى من الأدب العالمي: ثلوج كليمنجارو.. استعرت منها قبل السفر مجموعة من الروايات قرأتها جميعاً، وكان من أهم ما قرأت رواية "العجوز والبحر" لارنست همنجواي، فالصياد العجوز يصطاد سمكة ضخمة لم يستطع أن يسحبها إلى قاربه الصغير، وإن استطاع ذلك بمعجزة ما، فلن يتسع لها القارب.

ولذلك قرر أن يشدها إلى ظهر القارب كي تساعده الأمواج في سحبها إلى الشاطئ.

في الطريق إلى الشاطئ هاجمت أسماك القرش سمكته، قاومها بقوة، وبعناد شديدين حتى وصل إلى الشاطئ، ولكن حين وصل لم يكن قد بقي من السمكة غير هيكل عظمي.

وفي لقاء مع سالمين سألني عن سقطرى، فقلت له: الجزيرة تنتظر أن تصل إليها الثورة، سأل كثيراً من الأسئلة، وقال: بعدكم با يجي الدور على الوزراء وأعضاء اللجنة المركزية.

أنهيت هذا الكتاب الذي صدر في مارس 2014 بهذه العبارة التي توافق محتواها مع جانب مما جاء في تقريري حول سقطرى: "لم يعد لدينا خيار سوى أن نعبر المضيق، ونصل إلى الشاطئ إلى حيث ينتظرنا "وطن مؤجل".. ولكن علينا أن نحسب حساب أن لا نصل إليه بهيكل عظمي".

"أيا ثورة الشعب دومي مناراً

فإنا بهدي ضياك اهتدينا

لجأنا إلى شامخات الجبال

ومن شامخات الجبال ابتدينا

عمدنا إلى رأس اوراسنا

وردفان أوراسنا أجمعين.."

كل عام وانتم بخير..