أزراج عمر يكتب:
فلاسفة غربيون كانوا يعتبرون العالم الثالث غير موجود
تعمم النظرة الكولنيالية على الشعوب التي كانت مستعمَرة، أنها شعوب متوحشة، متحججة في ذلك بما يسمى حركات المقاومة أو التحرر الوطني، متناسية أن العنف الذي أفرزته حركات التحرر إنما هو رد على عنف أعمق، هو عنف الاستعمار الاستئصالي، الذي يرى في الشعوب التي استعمرها مجرد بيئات متوحشة. ولكن تصحيح هذه النظرة لم يكن بالشكل المطلوب في كتابات الكثير من المفكرين والنقاد.
هناك زخم من الكتابات النقدية المهمة وذات الصلة بحركة التحرر الوطني الجزائري لمؤسسي النقد ما بعد الاستعماري وفي مقدمتهم إدوارد سعيد، وهومي بابا وغياتري سبيفاك، ولكن من الملاحظ أن في هذه الكتابات نقائص معتبرة تخل بمسألتين أساسيتين تتصلان في العمق بمواقع ومرجعيات نظرية ما بعد الكولونيالية نفسها.
تتمثل المسألة الأولى في حصر هؤلاء النقاد المؤسسين، المذكورين آنفا، للجهاز المفهومي الذي يستخدمه النقد ما بعد الكولونيالي في المرجعيات الفكرية الغربية في الغالب، أما المسألة الثانية فيمكن تلخيصها في وقوع هؤلاء في شرك المركزية الغربية التي ينتقدونها ولكنهم يعيدون إنتاجها جرّاء تركيزهم أحادي البعد على إبراز التأثير الكولونيالي على البلدان المستعمرة ويهملون ما أدعوه بالتأثير المعاكس الآتي من المقاومات التي مارستها المجتمعات التي مارست حركات التحرر الوطنية في العالم الثالث بشكل خاص. في هذا السياق أركز هنا على إبراز المشكلات التي تثيرها كتابات بابا وأؤجل النظر في كتابات إدوارد سعيد وغياتري سبيفاك.
طمس أثر المقاومة
من المعروف أن هومي بابا يشترك مع إدوارد سعيد في الاهتمام الحيوي بكتابات فرانز فانون الذي يحتل مكانة مهمة في مشروعه النظري والتطبيقي معا منذ كتابه الاستشراق، ولكن السؤال المطروح هنا هو: هل قام هومي بابا بتحديد موقع عمل فانون ضمن المناقشات الثقافية والسياسية التي لعبت دورا أساسيا في مقاومات نزع الاستعمار في الجزائر، أم أنه اكتفى بتغيير جدول الأعمال بواسطة ذكر الجزائر فقط في سياق تحليلاته لكتابات فانون وذلك منذ أن كتب مقدمته الرئيسية لكتاب بشرة سوداء وأقنعة بيضاء في عام 1986، علما وأنه قام بتعديلها ونشرها في وقت لاحق في كتابه الشهير موقع الثقافة – 2003، الذي قال عنه إدوارد سعيد إنه يعتبر “علامة فارقة في النقاش ما بعد الاستعماري/ ما بعد الحداثي”.
في تقديري أن المشروع النقدي العام لهومي بابا يركز بشكل أساسي على بناء نظرية ما بعد كولونيالية مركَبة من أفكار فانون ولاكان وفرويد ودريدا وفوكو وبورديو وليوتار ورورتي وباختين وغيرهم، وبعبارة أخرى فإنه يمكن القول إن بابا قد ساهم بقوة في دمج وتحريك النظريات والمفاهيم التي قام بنحتها وتكريسها هؤلاء المفكرون والفلاسفة.
رغم ذلك ينبغي التأكيد أن بابا قد نجح في إعادة بناء استراتيجيات النظرية ما بعد الاستعمارية الخاصة به من هذه المفاهيم والأفكار التي بلورها بذكاء في دراساته للتمثلات الثقافية الاستعمارية وما بعد الاستعمارية حيث استطاع أن ينحت مجموعة من المفاهيم والمصطلحات التي أصبحت تحمل بصمته في سياق بروتوكولات النقد ما بعد الكولونيالي مثل الإنكار، والتقليد، والهجنة المؤسسة للهوية وعلاقات التأرجح التي تميز غالبا علاقة المستعمر (بفتح الميم) سابقا بالمراكز الاستعمارية، فضلا عن مفهوم التماهي الذي يلعب دورا مهما في صياغة سلوك التبعية لدى التابع في العالم الثالث بشكل محدد.
بابا قد ساهم بقوة في دمج وتحريك النظريات والمفاهيم التي قام بنحتها وتكريسها هؤلاء المفكرون والفلاسفة
في هذا الصدد يجدر بنا التوضيح بأن بابا ليس مؤرخا للجذور والخلفيات الاجتماعية والتاريخية التي أنتجت ظاهرة النقد ما بعد الكولونيالي والأفكار والنظريات التي يتسلح بها هذا النقد.
توضح دراستي التحليلية للكتاب الذي أشرف على تحريره وجمع مواده هومي بابا وهو “الأمة والسرد” ولكتابه موقع الثقافة أنهما لا يحتويان على أي شيء محدد وله صلة بالمقاومات الرمزية والمادية لحركة التحرر الوطني الجزائري، كما أنه لا يقوم بتحليل مرحلة ما بعد الاستقلال وعمليات فك ارتباط سواء كانت ناحجة أم فاشلة، وفي السياق ذاته فإننا لا نعثر على أي تفكيك لأشكال الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية الفرنسية على الجزائر المستقلة.
رغم أن بابا يناقش في كتابه مواقع الثقافة تحليلات فرانز فانون للكيفية التي ناضلت بها الجزائر من أجل التخلص من الاستعمار ولمحاولات هدم الخطاب الاستعماري الفرنسي، إلا أنه لم يسبر كيف أدى ذلك إلى تغيير كل من المجتمع الجزائري والمجتمع الفرنسي معا، كما أنه لم يوضح كيف قام فرانز فانون -وكذلك حركة نزع الاستعمار الجزائري وعواقبه- بالتأثير على تشكيل السرديات الأدبية الفرنسية والفكر الفلسفي الفرنسي وكيف خلخلت الخطابات السياسية في المشهد السياسي الفرنسي أيضا.
من الضروري هنا الإشارة إلى أن هومي بابا يهمل، على سبيل المثال، التأثير المتبادل بين فكر فرانز فانون وفكر جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار ودور فانون وعلاقة كل ذلك بالاستعمار الفرنسي للجزائر، وهي الحقيقة التي تبرزها سيمون دي بوفوار في كتابها قوة الأشياء على النحو التالي “أثناء وجوده في كوبا، أدرك سارتر حقيقة ما كان يقوله فانون: إنه في حالة العنف فقط يستطيع المضطهدون تحقيق وضعهم الإنساني. لقد كان متفقا مع كتاب فانون، وهو متطرف وشامل ومُحرِق، ولكنه في الوقت نفسه مانيفستو معقد ودقيق لـ”بقية العالم”؛ ولقد وافق بكل سرور على كتابة مقدمة لذلك الكتاب”.
العنف المضاد
أود هنا أن أزعم أن التأثير المتبادل بين فانون وسارتر لم يكن على المستوى الشخصي أو السياسي فحسب، بل كان أيضا أخلاقيا ونظريا. يحفل كتاب سارتر الذي يحمل عنوان “نقد النقد الجدلي” بتنظير لإضفاء الشرعية على استخدام حركة التحرر الجزائري للعنف ضد العنف المؤسسي الاستعماري الفرنسي، وفي هذا الخصوص فقد جادل سارتر مبرزا أن النظام الاستعماري القائم على الممارسات التقسيمية العنصرية هو الذي يفرخ ويشعل دراما العنف.
في هذا الخصوص كتب سارتر قائلا “إن ابن المستعمر وابن المسلم هما أولاد العنف الموضوعي الذي يعرّف النظام الاستعماري نفسه بأنه جحيم عملي عاطل”. وفي الواقع فإن هومي بابا لم يدخل في نقاش جدي على الإطلاق مع تداعيات السجال الذي أثاره كل من فانون وسارتر بتبنيهما لشرعية العنف الذي مارسته حركة التحرر
الوطني الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي، وفي المقدمة اعتراض الفيلسوفة الألمانية يهودية الأصل وتلميذة الفيلسوف مارتن هيدغر حنه أرندت عليهما في كتابها المعنون “في العنف” حيث كشفت أيضا عن موقفها السلبي المتطرف من العالم الثالث هكذا “ليس العالم الثالث حقيقة.. إنه أيديولوجيا فقط”. والحال فإن حنه أرندت لا تميز في نقدها لسارتر وفانون بين الضحية والجلاد وأن ظاهرة العنف الجماعي في ظل الكولونيالية ليس ظاهرة مرضية بل إنه يأخذ لدى المقاومات الوطنية شكل الرد المادي على تهديد الهوية الوطنية كما يمكن وصفه بأنه إسقاط للعنف الذي مورس عليه من طرف المحتل.
من الواضح إذن أنَ هومي بابا لم يدرس المقاومة الثقافية الجزائرية وموقع فانون ضمنها بل إنه قد نظر إلى حركة التحرر الوطني من خلال عيون فانون فقط ويتجلى هذا في معظم تحليلاته الواردة في كتابه مواقع الثقافة حيث نجده يعترف بأن تفكيك دريدا، ونظريات لاكان التحليلية النفسية، وما بعد البنيوية، واستراتيجيات مفهوم رأس المال الرمزي لبورديو هي جزء من جهازه النظري.
لكن دريدا الذي أثر في كتابات بابا قد صرح في حواره مع الشاعر العراقي كاظم جهاد، المنشور في مجلة الكرمل ثم في كتاب الكتابة والاختلاف الذي ترجمه عن الفرنسية، بأن تجربته في الجزائر المستعمرة قد نقلها إلى سردياته الفلسفية، كما نجد كثيرا من مفاهيم بورديو التي يوظفها هومي بابا مشتقة من تجربة بورديو الجزائرية وبالتحديد في كتاباته النظرية والميدانية المكرسة للمجتمع القبائلي بالجزائر، وها هو بورديو يعترف بكل هذا قائلا إن “معظم المفاهيم التي قمت بتنظيم العمل بها في سوسيولوجيا التربية والتعليم والثقافة والتي قمت بتنفيذها أو توجيهها إلى مركز علم الاجتماع الأوروبي قد نشأت على أساس تعميم نتائج الإثنوغرافيا والسوسيولوجيا والعمل الذي قمت به في الجزائر”.